الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد.
منذ أن بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار دعوته، كان اليهود لا يتركون فرصة إلا ويغتنمونها لإيذائه وإيذاء أصحابه علنا وفي الخفاء، يكيدون المكائد ويضمرون الخبث والكراهية والحقد ويعلنونها فتنا وحروبا على المسلمين.
ولكن غزوة خيبر التي حصلت في السنة السابعة للهجرة في الخامس من صفرٍ كانت حربا فاصلة أظهر الله تعالى فيها النصر في تفوق المسلمين رغم قلّتهم على عدوهم المدعم بعدده وعتاده.
سبق معركة خيبر صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، والذي اتفق فيه أن لا يساعدوا أحدا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ما أفقد اليهود مساندة كثيرة من العرب، فكان الحل عندهم بأن تتجمع وتتحالف كل قواهم لتقوى شوكتهم في مواجهة المسلمين. وهذا ما تم حيث تحصن كثير من يهود الحجاز في ناحية تدعى خيبر تبعد نحو مائة ميل شمال المدينة المنورة.
و خيبر عبارة عن أرض واسعة ذات واحات خصبة يكثر فيها النخيل وتضم حصونا منيعة لليهود مقسمة إلى ثلاث مناطق قتالية محصنة. ومع كل هذه القوة الظاهرة فقد كان الكفار جبناء أثناء المعارك لا يحاربون إلا من داخل حصونهم ومن وراء الجدران، وقد أعلم الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر فوضع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خطته على أساس مفاجأتهم وهم في حصونهم وأثناء شعورهم بالأمن.
خرج جيش المجاهدين بقيادة أشجع الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باتجاه خيبر في ألف وستمائة من المقاتلين الذين عشقوا الشهادة في سبيل الله وفيهم مائتا فارس، ونزلوا واديا اسمه الرجيع ليمنعوا قبيلة غطفان من مساعدة اليهود في حربهم ضد المسلمين وفي خيبر، فلما خرجت قبيلة غطفان وتركت ديارها سمعوا خلفهم حسا فظنوا أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم فرجعوا خائفين على أموالهم وديارهم ولم يحاربوا المسلمين الذين أكملوا سيرهم إلى خيبر.
وأثناء المسير الطويل شغل المسلمون أنفسهم بقراءة القرءان وذكر الله تعالى وصار الصحابي الجليل عامر بن الأكوع ينشد لهم يشجعهم على المضي للجهاد قائلا :
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة عندما سمع ما في هذه الكلمات من الحماس والتشجيع.
ووصل جيش المسلمين ليلا إلى مشارف خيبر وظهرت حصونها فعسكروا حولها ووقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه يدعو الله تعالى. وفي الصباح، استيقظ أهلها ليجدوا أنهم محاصرون ومحاطون بعسكر المسلمين، فدب في نفوسهم الرعب واستعدوا للحرب، ثم نادى النبي صلى الله عليه وسلم بصوت ارتجت له حصون الكفر وقال: “الله أكبر خربت خيبر” فرددها الصحابة خلفه فأيقن اليهود أنهم مغلوبون.
رميت السهام كشهب النار فوق أول الحصون وهو يدعى حصن ناعم ما دفع بأهله إلى الهرب والالتجاء إلى ما جاوره من حصون. وقتل عنده الصحابي الجليل محمود بن مسلمة، قتله يهودي اسمه مرحب بضربة في رأسه. وفي أثناء المعركة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل المحيط بالحصون حتى ينكشف اليهود إذا ما هجموا على المسلمين، وقد أغاظهم هذا كثيرا، ثم مالبث أن تسلم الراية سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأغار على بعض الحصون وتبعه سيدنا عمر رضي الله عنه في غارات سريعة فأسر يهوديا من أهل خيبر أعلم المسلمين أن اليهود خرجوا من حصن النطاة وتسللوا إلى حصن ءاخر اسمه الشق فحاصروه، وترامى الطرفان فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من حصى ورمى بها الحصن فاهتز بأهله حتى كأنه غرق في الأرض، فدخله المسلمون وأخذوه.
بقي حصون منها الصعب والوطيح والسلالم والقموص وقد تحصن بها اليهود أشد التحصين، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين من تقوية الحصار عليهم.
ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته المجاهدين : “لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار” ثم دعا عليا رضي الله عنه وكان قد أصيب بمرض في عينيه، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم فيهما فشفي بإذن الله، وأخذ الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم بمن معه، فلما اقترب من أحد الحصون الباقية خرج إليه بعض اليهود فقاتلهم، إلا أنه تلقى ضربة فوقع الترس منه، عندها حصلت له كرامة عظيمة كونه وليا من أولياء الله الصالحين، فقد تناول بابا كان عند الحصن وجعله ترسا أبقاه في يده يقاتل به حتى فتح الله على يديه، ثم ألقى الباب وجاء ثمانية من الصحابة ليقلبوا هذا الباب فما استطاعوا.
استمر القتال وهجم المسلمون هجمة قوية على حصن الصعب بقيادة الحصابي الفاضل حباب بن المنذر، فخرج منه يهودي متعجرف هو نفسه مرحب الذي قتل الصحابي محمود بن مسلمة ونادى : “من يبارزني؟” فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحابي محمد بن مسلمة شقيق محمود ليبارزه ويأخذ بثأر أخيه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم قائلا : “اللهم أعنه عليه”، فتقاتلا طويلا ثم عاجله محمد بضربة قاصمة قتلته، وقيل إن الذي قتل اليهودي مرحب هو سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم يصمد حصن الصعب طويلا حتى فتح ودخله المسلمون منتصرين، وكان في الحصن الكثير من التمر والزبيب والعسل والسمن فأكل المسلمون حاجتهم منه بعد ما نالهم الكثير من التعب والجوع، ووجدوا فيه الكثير من السيوف والدروع والنبال وغيرها من العتاد الحربي الذي استعملوه في حربهم فنفعهم نفعا كبيرا.
وتجدد القتال إذ ما زالت بعض الحصون لم تسقط، وبقي اليهود يهربون إلى أن وصلوا إلى حصن ءاخر هو حصن الزبير فلحق بهم المسلمون وحاصروهم ثلاثة أيام ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع الماء عنهم لإجبارهم على الخروج، فما كان من اليهود إلا أن فتحوا الحصن وخرجوا منه يقاتلون وجها لوجه، فقُهِروا وكان النصر حليفا للمسلمين.
وتداعت حصون خيبر على هذا النحو وسقط حصن الوطيح والسلالم وكانا ءاخر ما افتتح، فلما أيقن اليهود بالهلاك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقف الحرب، واستسلموا على أن لا يقتل منهم أحد ويتخلوا عن حصونهم كلها بما فيها من أموال ومتاع.
وهكذا غُلب اليهود وذهبت فوتهم وأصبح المسلمون في مأمن من ناحية الشمال إلى جهة بلاد الشام بعدما أصبحوا في مأمن من ناحية الجنوب.
وكان فتح خيبر حدثا عظيما اهتزت له أركان قريش، فقد كان نبأ انتصار المسلمين على اليهود مذهلا ومروعا عند قريش، إذ كانوا لا يتوقعون انهيار حصون خيبر المنيعة، ولا اليهود أنفسهم كانوا يتوقعون غزو المسلمين لهم.
فانظروا كيف أن اليهود الذين كانوا عشرة أضعاف جيش المسلمين ومعهم السلاح الكثير، وفي حصون منيعة هزموا من المسلمين القليلي العدد والعدة، الذين كانوا في أرض مكشوفة، غير محصنين، ولا يملكون السلاح الكافي ولا الطعام المخزون، وهذا ليس إلا لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرون دين الله تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ينصر دين الله فالله ناصره.