انتقد الباحث الفلسطيني، جوزيف مسعد، أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث، في جامعة كولومبيا في نيويورك، عمل المنظمات غير الحكومية بالعالم العربي، لافتا إلى أنها «تتنافس مع النظام القائم» في ما وصفه بـ«نيل رضا ليبراليي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الذين يموّلونها»، مشددا: «نحن أمام هجمة شرسة هي جزء من دعاية عالمية تختزل التحليل والفكر بشعارات سطحية واهية يجري تبنيها على أنها قمة العمق والتحليل الفكري والمفاهيمي».
وقال «مسعد»، في حوار مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية، إن «المنظومة الليبرالية والنيوليبرالية تتبنى الحقوق الهوياتية وتُقصي الحقوق الاقتصادية، حيث إن الأولى يتم استغلالها للتسويق الرأسمالي بإنشاء أسواق وبضائع تستهدف القوة الشرائية لحملة هذه الهويات الناشئة والعابرة للأوطان، وأيديولوجيًا لتدل على إنسانية الليبرالية التي تدافع عن الأفراد وهوياتهم»، متابعا: «وهذا بالتحديد دور المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن هويات عالمية وتضفي عليها طابعًا محليًا وهي من يسوق لها أصلًا، وفي بعض الأحيان هي من يخترعها، بحسب أجندات إمبريالية يتم التخطيط لها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية»، مؤكدا أن: «هكذا عندما يتم التدخل الإمبريالي على أي صعيد في بلاد العالم الثالث، تُقدم الحجة بأن المجتمع المدني المحلي، الذي هو صنيعة الإمبريالية، هو من طالب به».
وهاجم صاحب كتاب «اشتهاء العرب، النشطاء السياسيون الذين يتحولون إلى موظفين في المنظمات غير الحكومية، مشددا على أنهم»يلعبون دورًا إمبرياليًا«، موضحا أن»الحقل الثقافي من أهم ما يُسوّق عالميًا النضال من أجل الحق السياسي بالتعبير عن الذات (ولكن ليس الحق بإعادة توزيع الثروات)، أو المطالبة بالديمقراطية السياسية (وعدم المطالبة بالديمقراطية الاقتصادية)«.
وتابع: «يعمل القائمون الغربيون على تسويق الفن بتحديد ما يمكن اعتباره فنًا مصريًا أو فلسطينيًا أو هنديًا يستحق التسويق عالميًا، أو أدبًا أو سينما جزائرية أو سورية تستحق أن تدخل سوق الثقافة العالمية، وتذكرة الدخول هي الوحدة الأيديولوجية الليبرالية التي يتبعها هؤلاء، بغض النظر عن استشراقها وعنصريتها في تصويرها للعالم غير الأبيض. وهنا يتم دخول هذا الفن والأدب لا كفن وأدب عالميين كالفن والأدب الغربيين، بل كفن وأدب فولكلوري – مصري، هندي، فلسطيني، أو ما هو أكثر عنصرية، (أفريقي)».
وقال «مسعد»، إنه عقب «تفشي الفكر الليبرالي والاقتصاد النيوليبرالي، انهارت المنظمات المناهضة للنسوية الليبرالية أو تم احتواؤها، وتحولت أهم ناشطاتها إلى مديرات لمنظمات غير حكومية تدر عليهن أرباحًا ويقمن بالتسويق للفكر الليبرالي، غير آبهات بعدم جدواه في تحرير النساء ككل بل مركزات على مقدرته على (تحرير) بعض النساء، دون أن يذكرن أن بعض النساء قد تم (تحريرهن) على حساب أكثرية النساء. وها نحن بعد ربع قرن على الأقل منذ إنشاء هذه المنظمات نجد أنفسنا أمام استمرار وتعزيز الاضطهاد لمعظم النساء على جميع المستويات، مع تحرير جزئي لنساء الطبقات العليا المستفيدة من النيوليبرالية، كما تبين الكثير من الدراسات النسوية، لا سيما عن نساء الولايات المتحدة وأوروبا، وليس فقط نساء العالم الثالث. إذاً المشكلة في هذه الأجندة الإمبريالية التي تدّعي أن من يناهض المنظمات والأجندة النسوية الأميركية الليبرالية هو كاره للنساء وجنسوي ومعاد للمرأة، والتي تشبه الدعاية الصهيونية التي تزعم أن من يعادي الأجندة الصهيونية لاسامي ومعاد لليهود؛ وهذا ما ينطبق أيضا على المروّجين للهويات المثلية الغربية حول العالم وأجنداتهم الإمبريالية، حيث يَصمون من يقاومهم برهاب المثلية والفكر الجنسي المحافظ، بينما هم من ينادون بتحديد العلاقات الجنسية واللذة الجنسية والممارسات الجنسية بهويات ينبغي على ممارسيها تبنّيها وينبغي على الدولة النيوليبرالية تقنينها!».
وتابع، أن «انحسار الفكر الوحدوي في وجه الإمبريالية والرأسمالية أدى إلى تحالفات أوسع، ليس فقط بين البورجوازيات الكمبرادورية (الرأسمالية المتحالفة مع رأس المال الغربي) التي تعاونت مع الاستعمار قبل الاستقلال وبعده، لكن أيضاً بين قسم كبير من المثقفين والفنانين والنشطاء السياسيين في العالم الثالث».
وأضاف، أن «المنظمات غير الحكومية حلت محل المجتمع المدني المحلي الذي كان النشطاء السياسيون في السابق جزءاً منه، واحتوت الكثير منهم برواتب عالية أدت إلى تسريح العمل والنشاط السياسي القائم، ونقل أي نشاط سياسي جديد إلى بوتقة هذه المنظمات التي تتبع استراتيجيات من يموّلها من الخارج، والذين تنادي إمبرياليتهم في بعض لأحيان باستبدال النظام المستبد الذي يخدم الإمبريالية بنظام آخر أقل استبداداً يخدم مصالحها أيضا عبر الاستمرار في إفقار الناس».
وأوضح، أن أهم ما قدمته ثورة أكتوبر الروسية في 1917 «هو الأمل بأن مقاومة الرأسمالية والاستبداد والغبن يمكنها أن تنتصر وأن تؤسس لمجتمع جديد، يهدف إلى مأسسة العدالة الاقتصادية والاجتماعية وتأسيس منظومة اجتماعية وثقافية جديدة. وأهم هذه الإنجازات التي استمرت في الاتحاد السوفياتي لحين سقوطه هي الحقوق الاقتصادية الرئيسة التي قدمها: الحق في العمل، الحق في التعليم المجاني، الحق في العناية الطبية والصحيّة المجانية، الحق في السكن، الحق في توفر الحضانات المجانية للأطفال، الحق في الثقافة عبر توفير الكتب والمسارح والعروض بأسعار زهيدة في متناول الجميع، وهي حقوق لا تزال معظم شعوب العالم محرومة منها».