في تمام الثانية عشر ظهراً، بدأنا نجوب في شوارع وسط البلد العتيقة، ملاذه الوحيد، بحثاً عن أحد المقتنيات الذي دلف إليها وحملها في قلبه وكتاباته، عطشاً لسماع حكاوي من محبيه المُقربين وأصدقائه، أخذتنا أرجلنا إلى مقهى زهرة البستان، دار النشر اللبنانية، مسكن أخته فاطمة في جاردن سيتي، أماكن لم يفارقها عم مكاوي سعيد في سنواته الأخيرة، لنجد في كل مكان فيهم ميعاد تخلّف مكي عنه اليوم، وبقى الطرف الآخر وحيداً في إنتظار موعد رجوعه.
1-وجيه على «زهرة البستان» في انتظار مكى: «جبت فطارنا زى كل يوم»
على أعتاب مقهى زهرة البستان، سير الأحداث لم يختلف عن كل يوم، وعلى واجهة المقهى ورقة تنعي عمدة وسط البلد، وبجانب طاولة عم مكاوي المفضلة، جلس وجيه جورج صديق عمره منذ 35 عاماً وحيداً، لم يُخلف ميعاد الفطور اليومي الذي اعتاده مع مكي طيلة سنوات صداقتهم، ولكن خلف ميكي ميعاده :«جبت الفطار زى كل يوم عادي لكن مفطرتش، وامبارح جيت وجبت الفطار لقيته اتأخر قوات عقاب ليك هفطر لوحدي وسيبت له فطاره»، ثم هم في الحكى عن ونيس روحه محاولاً تماسك أعصابه. عاصر وجيه، مخرج سنمائي، مع مكاوي معظم محطات رحلته، منذ أن كان مُحاسباً، ثم قرر أن يتركها ويتجه إلى الشعر والكتابة، واتخذوا سوياً مقاهي وسط البلد ملاذاً لهم وباقي «الشلّة»، التي بدأت «تصفصف» في الفترة الأخيرة أحبابها واحداً تلو الآخر، وتنقلوا من مقهى لآخر، إلى ان انتهى بهم الحال في البستان، ويحكي:«كُنّا بنقعد في أسترا وعلي بابا واحنا صغيرين، وكانت ريش ساعتها بتجمع كل الناس المشهورة لكن كانت غالية علينا فأتخذنا البستان العمق الإستراتيجي لها وبقينا نقعد فيها، ومكاوي كان من أول الناس اللي بيجوا هنا والناس بقت بتيجي على حسه». «وسط البلد والكتابه»، كانوا العشق والشغف الذي حملهم مكاوي وأكتفى بهم، ففي حديث وجيه، كان دائم التأكد على إنهم أولاد وسط البلد «كنّا هنا قبل أي حد، لفيناها سوا شارع شارع»، وكان هذا سبب كتاب مقتنيات وسط البلد الأشهر بين مؤلفاته والذي جمع فيه عُصارة حياته هناك، ويكمل:«مكاوي كان من أتيليه القاهرة للقهوة هنا بيقضي يومه، وساعة القيلولة كانت مقدسة، تيجي نلقيه اختفى وراح مكتبه اللي في هنا برضو يريح فيه».
«الروتين اليومي المعتاد»، كان أكثر ما تميز به عم مكاوي، فحكى وجيه عن عاداته التي كانت مُقدسة، فيستيقظ في الثامنة صباحاً، يمشي في طريقه المعتاد من جاردن سيتي للبستان، في تمام الثامنة ونصف يجلس في مكانه المعتاد، ينتظره وجيه ليفطروا سوياً، ثم يشرب قهوته «بن فاتح»، ويقرأ الجرائد،ويبدأ أصدقائه ومريديه يتوافدوا عليه على مدار اليوم، ويكمل:«الناس كانت بتتلم حوالين مكي كان بيحتوي ويسمع كل الناس، كان عنده روح سخرية قوية، بداية من أطفال الشوارع لحد الكتاب كانوا بيحبوا يتلموا حواليه». حكى وجيه عن شغف مكاوي الدائم في الكتابة، فمنذ بدايته إلى أيامه الأخيرة وهو كان طموح ودؤوب عليها، يسعى لنشر كتاباته، وإنه كان في طريقه لنشر كتاب له، واللذي كان بطل حديثهم في الفترة الأخيرة وكانوا ينتظران خروجه إلى النور سوياً:«الفترة الأخيرة كان مشغول بكتابه اللي خلصه وكان المفروض هيتنشر كمان أسابيع مع دار المصرية اللبنانية ولكن الموضوع مكملش».
2– «القاهرة وما فيها».. كتاب «مكاوى» الذي ينتظر اللمسات الأخيرة
داخل أروقة مبني الدار المصرية اللبنانية ووسط المئات من الكتب والروايات لكتاب وأدباء وشعراء كثر، غابت نورا رشاد، مديرة النشر عن المكتب أمس حزنا على خبر فقدان الراحل مكاوي سعيد، بينما جلست نرمين رشاد، أختها ومديرة النشر الأخرى تتابع أعمالها وأعمال شقيقتها، حدثت المصري اليوم عن الراحل وعن أخر لمساته في كتابه الأخير، المقرر نشرة خلال الأسابيع القادمة باسم القاهرة وما فيها.
حكت نيرمين عن الموعد المنتظر للراحل صباح اليوم داخل المكتب، لمراجعة غلاف الكتاب، الموعد الذي تخلف عنه بسبب وفاته اليوم السابق، دون أي سابق إنذار، تقول نيرمين: «متعود يجي كل يوم أحد يشرب القهوة هنا ويقعد معايا أنا ونورا، لكن مجاش النهاردة، الموت خطفه مننا».
علاقة مكاوي بالدار كبيرة، فا اعتاد صدور كتبه ورواياته من خلالها، ومنها كراسة التحرير، جن يبحث عن وظيفة، فئران السفينة، أن تبحك جيهان، وتغريدة البجعة كإعادة طبع في الدار وغيرها من الأعمال.
تواصلت المصري اليوم هاتفيا مع نورا، الفتاة التي ربطتها بمكاوي علاقة قوية وباشرت جميع أعماله الصادرة من الدار، بنبرات حزينة تنعي نورا الرجل الذي عشق القاهرة وأحياءها وشوارع وناسها، وبالأخص منطقة وسط البلد.
نحكي نورا عن كتابة الأخير، وتقول: «جالي يوم الأحد 12 نوفمبر أخد بروفة الكتاب، لأنه كان شخص دقيق جدا وعمل بعض التعديلات ورجعالهلي الأسبوع اللي بعده على طول ووقتها قولتله إننا مستعجلين على النشر وياريت تبقى دي أخر مرة ياخد البروفة وبالفعل استجاب، وميعادنا كان النهاردة عشان الغلاف ونبدأ عملية الطباعة».
كتاب مكاوي الجديد «القاهرة وما فيها» كما وصفه في عنوانه التفصيلي «حكايات، أمكنة، أزمنة، وطرائف فنية وسياسية»، يعتبر استكمال لكتابه مقتنيات وسط البلد.
تعتبر نورا نفسها صديقة قريبة لمكاوي، تعرفه منذ أكثر من ستة أعوام، وتقول: «حياته كانت روتينية جدا، يروح القهوة من 8 الصبح لحد الساعة 2، بعدين يختفي لحد الساعة 7 وكان يقول على الوقت ده»ساعة القيلولة«ويرجع تاني على القهوة الساعة 7 بالليل، كان من كتر تواجده في قهوة البستان، اعتبروه شجرة داخل البستان، ودلوقتي سابت فراغ».
لم يتسنى لمكاوي استكمال روايته الجديدة كما استكمل كتابه، روايته الجديدة التي أراد أن تكون بديلا لعدم النجاح الكبير لرواية «أن تحبك جيهان»، تقول نورا: «كان متحمس للرواية الجديدة دي جدا، وكان حزين على عدم نجاح رواية جيهان لأن ناس كتير وقتها حاربته، بس للأسف تفاصيل الرواية الجديدة كانت معاه وراحت معاه، الحمد لله إنه على الأقل كمل كتاب»القاهرة وما فيها«».
تستطرد نورا في حديثها عن مكاوي، «مكنش بيتكلم عن أمور شخصية أبدا، ولا يسأل ولا يتسأل، معرفش غير إن عنده أخ اتوفى من فترة قريبة، واخت عايش معاها في جاردن سيتي، مش بيفرقوا بعض».
وتختم حديثها هي وشقيقتها عن ملاحظة كثيرا ما انتبهوا إليها في حياته واُستكملت بعد وفاته، «كان لما يحضر أي ندوة أو يكون في أي مكان، كان يختفي فجأة بدون أي مقدمات ولا أي سلام، لما كنا نسأله كان يقول أنا بحب انسحب في هدوء، وأخرج خروج آمن، وأهو رحل عنا بمنتهى الهدوء».
3- «فاطمة» من داخل منزلهما في جاردن سيتى: مات بين إيدى
«مشوفتوش النهاردة الصبح قبل ما ينزل ولا هشوفه بالليل قبل ما ينام»، كلمات بدأت بها فاطمة سعيد، شقيقة عمدة وسط البلد، حديثها للمصري اليوم من داخل منزلة في منطقة جاردن سيتي، حيث يقام عزاء للسيدات هناك.
لم تتمكن فاطمة من الكلام عن مكاوي كثيرا، فصدمتها بفقدانه كانت كبيرة، فهو ونعم الونيس، الذي عاشت معه طيلة حياته داخل منزل واحد بمفردهما، لازمته في كل خطوات نجاحه، كانت شاهدة على شغفه بالأدب، وتقول: «كنت بحضر معاه كل حفلات توقيع كتبه، وعملي إهداء في كتاب تغريدة البجعة اللي اترجم لأكتر من لغة».
لكنها لم تلازمه في رحلاته اليومية في منطقة وسط البلد، «كانت حياته كلها هناك، منطقته المفضلة، طول اليوم ويرجع بس ينام هنا».
نحتت الصدمة تفاصيل وفاة مكاوي المفاجئة في ذاكرة فاطمة، والتي سيصعب نسيانها بمرور الأعوام، «كلمني قالي أنا بطني وجعاني أوي، قولتله عشان القولون العصبي، قالي طيب هروح أريح شوية».
عادت فاطمة من عملها في إحدى الصيدليات ظهر يوم الجمعة، وجدته جالسا في المنزل، «عملتله جبنة قريش عشان تكون خفيفة على معدته، وأكل موز، وقالي هنام شوية».
استيقظ الشقيق بعد نصف ساعة، ومسح على خد أخته في حنان، واستعد لاحتضانها، «وقع بين إيدي وأخدته على الكرسي وكلمت الجيران».
همس مكاوي في إرهاق يسأل أخته «أكلتي الحمام النهاردة؟»، تقول فاطمة: «أنا بربي حمام في السطح، وكان دايما مهتم إني أكله».
جاء الدكتور لمنزل مكاوي، وأخبرها بأنه توفى، «مصدقتش وكنت عايزة أوديه المستشفى، أصل إزاي دهم كنش بيشتكي من حاجة خالص».