«بوابة حديدية ضخمة أُحكم غلقها بقفل معدنى متصلة أطرافه بهيكل البوابة لزيادة تأمين غلقه، بعد توقفه نهائياً عن العمل عقب استنفاد مالكه كل المحاولات لاستكمال مسيرة الإدارة والتشغيل دون جدوى».. الكلمات السابقة تصف- باختصار- حال أحد مصانع الغزل والنسيج فى المنطقة الصناعية بـ«شبرا الخيمة»، اقتربت الأرض من ابتلاعه، ولم يعد بارزاً منه سوى لافتة مدون عليها الآية القرآنية «رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى».
أمام المصنع وجدنا تمثالاً مصنوعاً من الجبس للزعم الراحل «جمال عبدالناصر»، مؤسس الترسانة الصناعية، إلا أن التمثال الذى توسط المنطقة الصناعية لسنوات تم رفعه أثناء تأسيس قواعد شبكة الغاز الطبيعى للمنطقة.
هكذا تتلاشى ملامح المنطقة الصناعية لصناعات الغزل والنسيج فى شبرا الخيمة مصنعاً بعد آخر، لتتخلى المنطقة رغماً عنها عن مصانعها وصوت الآلات، واكتفاء ما تبقى من مصانع بمجموعة قليلة من العاملين، اقتربت هى الأخرى من الاختفاء بعد تفكيكها وبيع أرضها فضاءً لتشييد أبراج سكنية أو قاعات أفراح.
شوارع ضيقة تسير فيها العربات الكارو أو سيارات نصف النقل التى تنقل «أتواب» القماش الخارجة من مصانع تعمل بنصف طاقتها من العمال والماكينات على حد سواء، ماكينات الستينيات فى مصانع القطاع العام والتسعينيات فى المصانع الخاصة هى آخر تحديث وصل إلى المصانع فى تلك المنطقة التى كانت قبل فترة تعج بأصوات الماكينات وعرق الأيدى «الشغالة».
إيهاب صبرى، مالك أحد المصانع، قال إن كثيرين من أصحاب المصانع لاتزال مصانعهم تعمل رغم الخسائر ويستهدفون من ذلك فقط محاولة الحفاظ على اسم ورثوه أباً عن جد، فى تلك القلعة الصناعية.
وأضاف: «100 عامل هو متوسط طاقة تشغيل أغلب المصانع حالياً، فى ظل تحديات عدة تواجهها، فى مقدمتها فواتير الكهرباء التى زادت من 180 ألفاً لـ360 ألفاً عن نفس معدل الاستهلاك وبدون أى مبرر سوى الحديث عن رفع الدعم وسلبيات الكشافين الذين لا يأتون لإثبات التكلفة فى المواعيد المقررة لهم، وبالتالى يقوم بتسجيل قراءات أكبر تدخل بالمصنع وصاحبه فى شريحة أعلى من شريحة استهلاكه، تثقل كاهله بمزيد من الأموال».
وتابع صبرى: «فاتورة الكهرباء أبسط معوقات الصناعة، فضلاً عن عوامل الإغراق وأزمة الدولار والاستيراد، كان لى 4 شحنات محجوزة فى الميناء، لمجرد إن البنك ماكانش موفّر العملة الصعبة اللازمة للتوريد، وأنا اللى كنت بحاسب على غرامة الأرضية بالدولار للميناء ولشركات الشحن طوال مدة حجزهم، والتى تصل إلى 10% من قيمة الشحنة، ورغم عدم التقصير من جانبى تقدمت بشكوى لرئاسة الجمهورية بسبب حجز الشحنات غير المبرر، الذى منح المصدر الأجنبى صورة ذهنية سيئة عنى أوحت بعدم قدرتى على السداد، رغم اتباعى كل الإجراءات القانونية.
وقال: «أستورد خام البوليستر، وهو خام لا بديل له فى مصر وتوفيره يتطلب دعماً من الدولة ذاتها لاعتماده على مشتقات البترول، وتكلفته العالية جداً، وليس البوليستر وحده، حيث نستورد القطن أيضاً بنسبة 70% من الصناعات، لأنه لم يعد هناك من يزرع القطن، ومن يقومون بزراعته لا يجدون دعماً من الدولة، فتراجعت مساحاته بشدة»، منوهاً بأن العالم يتجه فى صناعاته إلى خامات البوليستر، حتى فى أجود الماركات، بعد معالجته بمواصفات تجعله بالطبع غير ضار على الجلد، بالإضافة إلى معالجات مقاومة الماء والنار وغيرها، وهو المؤشر الذى يؤكد ضرورة دعم هذا الخام وتوفيره محلياً، بما يتيح الفرصة بشكل كبير لتطوير الصناعة نفسها».
يقف «إيهاب» وسط مصنعه وعماله، ويراوده الحلم بيوم يتمكن فيه من استبدال ماكينات الغزل والنسيج موديل التسعينيات بماكينات أحدث ألمانية أو إسبانية الصنع، ويقول: «شفت ماكينات لما بيحصل فيها عطل بتدخل الفيزا كارد فى الماكينة، ويتم الإصلاح بشكل مباشر من الشركة الأم المصنعة لها فى الخارج».
دعم الدولة لتحديث صناعة الغزل سيلقى صداه فى تحسين جودة المنتج بنسبة قدرها 70%، فضلاً عن توفير الكهرباء والاستغلال الأمثل للعامل الذى يمكنه العمل وقتها على 6 ماكينات فى ذات الوقت بدلاً من 2 أو 3 كما يحدث حالياً.
فى حين يرى رزق ملاك، أحد أصحاب المصانع، أن هناك عائقاً لا يقل خطورة إطلاقاً عن المعوقات الرسمية التى تواجه المصانع هو «التوك توك»، تلك المركبة التى استقطبت عمال المهنة من فوق الماكينات، وأدخلت أصحاب المصانع فى مساومات، إما برفع يومية الوردية التى أصبحت تصل لـ150 جنيهاً، أو ترك العمل، واستبدال قيادة الـ«توك توك» به.
خرج «رزق» من دائرة الحديث عن العمال وتذكَّر دعم الدولة حين كان الرئيس الراحل «أنور السادات» يزور المنطقة الصناعية بنفسه، وقال: «ذات مرة شكونا للرئيس الراحل بعض معوقات الصناعة فأمر على الفور بدعمها بـ150 مليون جنيه، كان يقدر الدولار وقتها بـ70 قرشاً، وتعامل وقتها بذكاء، فلم يمنح أصحاب المصانع أموالاً فى أيديهم، بل طلب منهم تصنيع بفتة ودمور وكستور وباتستا، ثم سلمها للمتاجر الشعبية، وتم توزيعها على بطاقات التموين». وأضاف: «كان للمصانع نسبة تخارج، وفيها يتم منح كل مصنع طناً أو اثنين من الغزل خارج التشغيل، يقوم أصحاب المصانع أنفسهم ببيعها فى السوق السوداء، بما يحقق مكسباً لهم، ويتربحون بقدر كان يساعدهم على تطوير المهنة»، أما الآن فالدولة ترهق أصحاب المصانع بدفع فواتير وتأمينات تصل لـ40% من أجر العامل، يتحمل فيها صاحب العمل 13% والعامل 27%.
مشاعر العمال لم تختلف كثيراً عن مشاعر أصحاب المصانع التى تقاسمت الحزن على ما آلت له الصناعة، ومنهم «جمال ذكى»، أحد العمال الذى يتذكر أيام التحاقه بالمهنة، قائلاً: «أول يوم أقف فيه على ماكينة الغزل كنت فى الثانية عشرة من عمرى، بعدما اصطحبتنى والدتى إلى أحد المصانع لاحترف المهنة التى كان لها صيت لا مجال لمنافسته، وكان اللى شغال فى الغزل يقولوا له ده انت ولا اللى سافر الكويت».
ومثل العشرات من زملائه العمال يعانى «جمال» من تدنى الأجور التى تصل لحد قد تنقطع فيه حين تعجز المصانع عن توفير المواد الخام، وتتوقف الماكينات لأيام. ويقول «وقتها كلنا بنلزم البيوت، ومن كرم صاحب العمل بيمنحنا نصف يومية خلال مدة التوقف، لأنه عارف إننا ملناش ذنب، وكلنا عندنا بيوت مفتوحة».
«جمال» الأب لـ4 أبناء، لم يفكر يوماً فى إلحاق الذكور منهم بالمهنة، أولا لأنهم- على حد تعبيره- «ما اتعلموهاش من صغرهم، وثانيا لأنها لم تعد تساعد على العيش، فى ظل أزماتها المتكررة، ظل لسنوات طويلة يتباهى بكونه عاملاً فى المنطقة الصناعية للغزل بشبرا الخيمة»، حيث كان يقارن وزملاؤه وضعها بباقى القلاع الصناعية المماثلة: «كنا أعلى فى الإنتاج من المحلة الكبرى، وكان القطن بييجى لنا من كل مكان، أما دلوقتى بنشتغل فى المستورد، وبنحمد ربنا إننا لاقيين خام».
ورغم أن عمره قارب على سن المعاش، فإن لديه الاستعداد لمواصلة العمل لأكثر من 12 ساعة، إذا ما تم تطوير الماكينات، وربما يتمكن من مواصلة العمل حتى بعد سن المعاش، فعلاقته بالمهنة كما يذكر مثل علاقة الهواء بالجسد.
وأضاف: «سويت معاشى من مصنع الغزل، وتمكنت بالكاد من دفع باقى أقساط التأمينات، عن المدة المتبقية، كى أتمكن من الحصول على معاش يكفى بالكاد الاحتياجات الأساسية لأسرتى، ولكن ومع الغلاء المستمر فى الأسعار اضطررت للخروج للعمل، فى حرف لا علاقة لها بسنوات الخبرة».
وانتقد إبراهيم سياسة الدولة فى التعامل مع حرف وصناعات قومية، مثل الغزل والنسيج، قائلا: «كان بمقدورنا الاستفادة وبقوة من السمعة العالمية للقطن المصرى، لإنتاج أفضل الغزول وتصديرها، خاصة أن القطن تتم زراعته على أرضنا، ولا يحتاج تصديرا أو شحنا ولا عملة صعبة، مثل الخام الذى اعتمدت عليه الصناعة مؤخراً، ويكلف أصحاب المصناع مبالغ طائلة، انعكست على يومية العامل، واهتمامهم بالعمالة من حيث الأرباح والمكافآت، التى كنا نتهادى بها طوال العام، وفى كل المناسبات أصبحت المهنة عبئا على الجميع، وكان البديل الأمثل هو الخروج من وطأة هذا العبء».
وفى ظل ظروف عائلته المتواضعة كان «إبراهيم» يحلم بأن يلتحق ابنه للعمل فى نفس المهنة، بعد حصوله على القدر الكافى من التعليم، إلا أن الواقع الذى وصلت له لم يعد يشجع على التفكير فى مثل هذا الأمر، فكل أب يحلم بمستقبل أفضل لأولاده، ورغم أن ابنه الحاصل على مؤهل متوسط، ولم يعمل حتى الآن، لم يقترح عليه العمل فى الغزل ويقول: «لأنى عارف إنه مش هيكمل فيها فحرام يضيع عمره زيى».