نظم صالون مؤسسة الشموع للثقافة والفنون بالقاهرة برئاسة د. لوتس عبدالكريم ندوة نقدية لمناقشة رواية «رئيس التحرير.. أهواء السيرة الذاتية» التي صدرت هذا العام لمؤلفها الشاعر السكندري أحمد فضل شبلول، قدم الندوة الشاعر أحمد الشهاوي وتحدث فيها الناقد الكبير شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق، الذي قال إن «عنوان الرواية يواجهنا بنوع من المحاكاة التهكمية التي تذكرنا بكتاب نجيب محفوظ (أصداء السيرة الذاتية)».
والمحاكاة التهكمية هي نوع من الكتابة يشير إلى المحاكاة لكلمات وأسلوب واتجاه وأفكار مؤلف معين أو لعنوان أحد أعماله وبطريقة تجعل هذه الجوانب مثيرة للضحك أو التعجب، وهدفها القيام بالوظيفة التصحيحية والوظيفة التهكمية في الوقت نفسه، ويصعب إنجاز المحاكاة التهكمية على نحو جيد في حالات كثيرة، فالأمر يحتاج إلى توازن خاص فيما بين عنصر المشابهة للأصل، وعنصر التشويه المتعمد لخصائصه المميزة الأساسية. وقد تحدث المحاكاة التهكمية في حالة سخرية المرء من نفسه أيضا، وكما تحدث بالنسبة لسخريته من آخرين.
وأوضح «عبدالحميد» أن «أصل المحاكاة التهكمية قديم، فهو موجود في محاكاة المصريين القدماء التهكمية لبعض السياسيين في تلك الرسوم التي وجدت في المعابد على هيئة صور، تصور الحيوانات وهي تسلك مسالك البشر، وموجود لدى اريستوفان في مسرحية «الضفادع» حيث سخر فيها من أسلوب اسخيلوس ويوريبيدس، واستخدمها بعد ذلك تشوشر والكسندر بوب وثربانتس في «دون كيخوته» (1605 – 1615) روايته الشهيرة التي سخر فيها من التراث الكلي لعصر الفرسان في القرون الوسطى. كما سخر شكسبير في «هاملت» من أسلوب كريستوفر مارلو المنمق الطنان، وهكذا استمر وجود أسلوب المحاكاة التهكمية في الأدب والفن وأصبحت مرتبطة الآن بمفهوم التناص في النقد، وكذلك فنون ما بعد الحداثة (التهكم من الموناليزا أو الصرخة لمونش مثلا) أو من بعض الأفلام بأفلام أخرى مثلا».
وأشار «عبدالحميد» إلى أن «هدف المحاكاة التهكمية ليس الضحك أو التحقير الفكاهي بل إبراز المتناقضات بين أمرين أو أكثر. ذلك لأن ما يميز المحاكاة التهكمية عن غيرها من أشكال المحاكاة هو ذلك الاستخدام البنائي أو التركيبي أو الخاص المرتبط بطريقة بناء العمل الفني أو تكوينه المثير للتناقض المضحك في المعنى».
وأوضح أن كلمة «أهواء» في عنوان هذه رواية شبلول لعبت دور معول الهدم للصورة الأولى الراسخة عن رئيس التحرير.
وعرج د. شاكر عبدالحميد على صورة رئيس التحرير التي ظهرت في أعمال أدبية كثيرة «خاصة تلك التي كتبها فتحي غانم وموسى صبري وناصر عراق وغيرهم، والآن لدى أحمد فضل شبلول، وهكذا نجد هنا أيضا محاولة للحديث عن ديناميات عالم الصحافة الثقافية وخلفياتها بداية من تلك العناوين الساخرة للفصول مثل: ألاعيب ثقافية، غريب على الخليج، فتاة الغلاف، مؤتمر صحفي، هارد ديسك خارجي، وغيرها، وتظهر هذه الخلفيات والألاعيب- تمثيلا لا حصرا – في قوله في بداية الرواية عندما بدأت تلوح له فرصة الذهاب للعمل في إحدى المجلات بالخليج إنه لن يخبر أحدا من زملائه أو أصدقائه خاصة القاهريين منهم عن هذا الأمر، لأنهم سوف يحاولون بالتأكيد خطف هذه الفرصة منه، وترشيح أحد منهم، فقد جربتهم مرات كثيرة ولُسعت منهم».
ويضيف «عبدالحميد»: «ثم يذكر عددا من الفرص الضائعة التي عانى منها من أمور مماثلة في أحد المهرجانات الشعرية بالخليج، والتي عندما جاء مندوب المؤتمر وسأل عنه أحد زملائه الذي يعرفه جيدا فقال إنه لا يعرفه، وضاعت الفرصة، كما ضاعت مرة أخرى عندما تم ترشيحه للسفر إلى مهرجان لوديف لشعر البحر المتوسط بالمجلس الأعلى للثقافة، ثم تم استبداله وسافر زميل آخر بدلا منه، ثم إنه يتذكر ولعه بمنصب رئيس التحرير وسعيه إليه منذ بدايات علاقته بعالم الكتابة والصحافة، وكسيرة ذاتية له، حيث بدأ كرئيس لتحرير مجلة حائط في كلية التجارة بالإسكندرية، وكان اسمها (دعوة للتأمل)، ثم علاقته بجمعية الدراما في الجامعة، ومعرفته بزميلته درية إبراهيم التي كان زملاؤه في الكلية يطلقون عليها لنحافتها اسم (خشبة عمود عبدالواقف)، ثم رئاسته لتحرير مجلة أخرى بعنوان «إشراقة» لم يصدر منها سوى عدد واحد، كان يصدرها طلاب التيار الإسلامي الذين نجحوا في انتخابات اتحاد الطلاب».
ويتابع د. شاكر عبدالحميد: «يتوالى الحديث عن الصحافة والنشر، ثم ترد إشارات إلى انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977 ووصف للمظاهرات العارمة التي شارك فيها جماهير كثيرة حتى تراجع السادات عن موقفه، وألغى قرارات رفع الأسعار، ثم عرضت مسرحية «مدرسة المشاغبين» في المساء، ونسي الناس المظاهرات والانتفاضة والثورة الشعبية، ويعود يوسف عبدالعزيز ليواصل أحلامه برئاسة التحرير وبالصحافة والثقافة وعالم الكتب والقراءة والكتابة والنشر، وكان الحلم يتجدد دوما عندما كان يقف أمام أكشاك بيع الجرائد والمجلات المصرية والعربية في محطة الرمل، ويطالع الصفحات الثقافية فيها، يلمس الورق ويحرص على شراء هذه المجلات ويقرأها من الجلدة إلى الجلدة، كما يقوم بمراسلة بعض الصحف، وأحيانا ما كان يتم النشر له في بريد القراء، وأحيانا في المتن، وأحيانا ما كانت تلك المجلات تدفع وأحيانا لا تدفع، وكيف أدى به النشر في إحدى المجلات الليبية إلى الاستدعاء في أمن الدولة، وكيف ترتب على التحقيق معه منع تلك المجلة من التوزيع في مصر، والحوار الذي دار بينه وبين الضابط الذي حقق معه يحمل الكثير من جوانب السخرية، وحكايات أخرى عن (مجلة فاروس للآداب والفنون) التي رأس تحريرها، وتم استدعاؤه للتحقيق أيضا، لأنه لم يحصل على موافقة لإصدار المجلة، وقد توقفت أيضا بعد سبعة أعداد».
في الرواية رصد لتاريخ الصحافة في مصر عامة، وفي الإسكندرية خاصة، وحديث عن أن الصحف مثل البشر، تولد قوية ومتفتحة ومندفعة، ثم تموت في صمت وذبول، وإشارات إلى أن الإسكندرية لم يظهر فيها من قبل رئيس تحرير يماثل على أمين أو مصطفى أمين أو هيكل أو أحمد بهاء الدين وأنيس منصور، ويكون مثلهم متميزا بالحس الصحفي والحدس المعرفي، وطرح قضايا المواطنين بلغة صحفية رصينة وجادة وخفيفة وجذابة في الوقت نفسه.
ثم إشارات وتقابلات بين الإسكندرية والقاهرة، الإسكندرية التي تم تأسيس الأهرام فيها أولا عام 1875 على يد بشارة وسليم تقلا ثم تم نقلها بعد ذلك عام 1899 إلى القاهرة، وحدث الأمر نفسه بالنسبة للسينما والمسرح والتصوير الفوتوغرافي وغير ذلك. كذلك الحال بالنسبة للأدباء والمبدعين والفنانين وغيرهم، لا بد من الانتقال إلى القاهرة حتى يحظوا بالأدوار.
لكنه كان يعتبر نفسه استثناء، لأن الإسكندرية كانت ترتبط لديه بأحلامه وذكرياته وبداياته وشبابه وبدايات علاقته الجميلة مع الفتيات اللاتي أحبهن، ودرية إبراهيم، ومنى فارس «مريمية الوجه والعينين، هيباتية الفكر والتحليل، متوسطية الجسد، عاشقة السينما والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي والرقص والشعر النزاري، خريجة الصحافة والإعلام» والتي كانت تحلم مثله بإصدار مطبوعة ثقافية فنية متنوعة من الإسكندرية.
وهناك رصد لتاريخ الإسكندرية من خلال الأحداث الكبرى التي مرت بها منذ العصور اليونانية والرومانية وحتى الآن، وسرد لتطور علاقته مع منى فارس وعمله مساعدا لها كرئيس لتحرير الصفحة الثقافية في إحدى صحف حزب الوفد، ثم توقفت الجريدة الشابة عن الصدور لأسباب خاصة بالحزب.
وتتواصل الأحداث حيث تتحول منى فارس من صحفية إلى ممثلة سينمائية وتلفزيونية، ويسافر يوسف إلى الخليج ليعمل في مجلة هناك، وتبدأ أحلامه هناك في التآكل والتبدد، بداية من أنه لا يجد أحدا في انتظاره أولا في المطار (على الرغم من أنه وجد بعد ذلك سيارة فارهة في انتظاره خارج المطار، ومعها مندوب من وزارة الثقافة والإعلام) ثم وصفه للمكان والمبنى والمكتب الذي سيعمل فيه وصراعات الزملاء في الغربة، وميله بعد ذلك إلى العزلة والانطواء والبعد عن الناس وشكوكه وتوقعه لحدوث الشر من جانبهم، وعلاقاته الملتبسة مع علياء الزغبي وأيمن شرف ورئيس التحرير الخليجي، وقد مر بمواقف كثيرة أسهمت في حدوث الإحباط المتزايد المتراكم في نفسه، هكذا صار يرى العالم من خلال المكتب والمكتبة ومن خلال الحمام أيضا، وصار يرقص هناك رقصة «التنورة»، كما لو كان قد دخل معبدا أو صومعة، صار متوحدا مع ذلك الغنى والثراء الذي يرتبط كله بعالم البيع والشراء والاستهلاك، عالم العرض والسطح والإبهار والإغواء، فنسي ما كان يفكر فيه ويسعى إليه وأصبحت الجوهرة إبراهيم وما تمثله من إشباعات وأخيلة جوهر وجوده وحياته.
هناك فصول كتبت عن استطلاعات في الأردن وغيرها مثل (فصل النبطي) بها معلومات كثيرة مقحمة أشبه بالمقال الصحفي الذي أثقل العمل، وأعاق ما به من تدفق (النزعة التوثيقية قد تكون مطلوبة في أحد الأعمال الروائية، ولكن دخولها إلى العمل ينبغي أن يكون بحساب وبسرعة حتى لا تتحول الرواية إلى مقال صحفي يكون بدوره أشبه بنتوء في المتن (ص 101 – 106). وكذلك الحديث عن ثورات الربيع العربي (تفاصيل معروفة ينبغي ذكرها بسرعة وإشارات سريعة ما حدث في الميدان، ثورة تونس، مصر، خالد سعيد، النت والشباب.. حتى تنحي مبارك.. الخ).
بعد أن كتب مقالا يؤيد فيه ثورة 25 يناير ويحذر من أن ينساق شبابها ويقعوا في أخطاء ثورة 1952 عنَّفه رئيس التحرير ونصحته الجوهرة بالحصول على إجازة، وعاد إلى مصر وواصل علاقته معها، وينتهي الأمر بأن يرسل رسالة إلى صديقه منسق المجلة يقول له خلالها: إذا لم أعد إليكم خلال أسبوعين.. إعط الزجاجة التي على مكتبي لسوريش الهندي.
تنتهي الرواية ولا يتحقق أمله الذي كان يسعى إليه ويحلم به أن يصبح رئيسا للتحرير، لكنها تنتهي أيضا وقد أصبح رئيسا لنفسه، نفسه التي أصبحت أكثر حرية من أفكار وحوارات ووساوس كثيرة سابقة طالما سيطرت على عقله وروحه.