الشاعر رفعت سلام: الدولة تخلت عن مسؤوليتها الثقافية.. وتحاصر أي جهد بديل (حوار)

حوار المصري اليوم مع رفعت سلام

حوار المصري اليوم مع رفعت سلام


تصوير :
آخرون

.smsBoxContainer-v1{
display: block;
text-align: center;
}
#NewsStory .news_SMSBox {

display: inline-block;
height: 50px;
padding: 0 15px;
text-align: center;
overflow: hidden;
border: 1px solid #c5c5c5;
width: auto !important;
margin: 10px auto 0;
background-color: #efefef;
}

.article .news_SMSBox {
margin-top: 45px;
padding: 0 10px;
overflow: hidden;
}

.news_SMSBox > p {
color: #cb0000;
margin-left: 5px;
max-width: 290px;
min-width: 50px;
font-size: 70% !important;
overflow: hidden;
margin: 0;

height: 50px;
line-height: 50px !important;
display: inline-block;
float:right;
}

.news_SMSBox > iframe {
float: none;
width: 275px;
display: inline-block;
height: 49px;
}

اشترك لتصلك أهم الأخبار

يعتبر الشاعر رفعت سلام من أهم رموز جيل السبعينيات الشعري، منذ ديوانه الأول «وردة الفوضى الجميلة» مرورا بدواوين «إنها تومئ لي» و«إشراقات» وانتهاء بديوانه الأخير «أرعى الشياه على المياه» يمثل حالة شعرية متفردة. كما أن ترجماته لكبار الشعراء العالميين بدءا من بوشكين وماياكوفسكي ورامبو وبودلير ووالت ويتمان وكفافيس وريتسوس تشهد له بإخلاصه للشعر بشكل عام ورغبته المستمرة في فتح آفاق جديدة أمام القارئ العربي والمصري تحديدا.

صدر قبل أيام كتاب نقدي عن مشوار رفعت سلام الشعري بعنوان «النهار الآتي» اعده الناقد احمد سراج ضمن سلسلة يعدها تحت عنوان ادب المصريين. واحتفت الأوساط الثقافية بهذا الكتاب وبتجربة سلام بشكل عام.. وفي عيد ميلاده السابع والستين نتوقف معه خلال هذا الحوار لنتعرف على رؤيته للواقع الثقافي والادبي وحال الترجمة وعلاقة الجمهور بالثقافة وعلاقة المثقف بالسلطة، فضلا عن إطلالة على عالمه الشعري وترجماته.. وإلى نص الحوار:

■ «النهار الآتي».. فكرة كتاب نقدي عن تجربتك، ومشوارك الشعري الطويل والثري.. إلى أي مدى تراها منصفة لما قدمته للشعر؟

«النهار الآتي» هو مبادرة وحالة استثنائية في واقعنا الثقافي، أطلقها أحمد سراج، وتجاوب معها أكثر من 25 ناقدًا وشاعرًا من أعلام النقد والشعر المصري والعربي، بكل إخلاص ووعي، وتجاوبت معها شخصيات أخرى، فيما يتعلق بتغطية تكاليف الطباعة. فالحدث في ذاته وعلى هذا النحو استثنائي، ومضيء في اتجاهات مختلفة، لمن لديهم الرغبة في الرؤية. وذلك أمر جدير بالعرفان والامتنان. فقد بذل الجميع الحدود القصوى من طاقاتهم الثقافية والنقدية لإنجاز فصول الكتاب، بلا غاية خارج الغاية الثقافية. فهل هناك ما يسعدني أكثر من ذلك؟

■ إلى أي مدى ترى أن الساحة النقدية مواكبة للإبداع الشعري، ومنصفة له؟

هناك «متابعات» نقدية أو شبه نقدية للدواوين الجديدة. ولا يكاد يمر أسبوع الآن دون أن تنعقد ندوة أو اثنتان- وأحيانًا ثلاث- لمناقشة الإصدارات الشعرية. وهو أمر هام بالفعل. لكن ما يغيب عن الساحة النقدية هو «التأسيس» النقدي. فليس لدينا في مصر حتى الآن كتاب مؤلَّف ذو مستوى لائق عن «قصيدة النثر» التي تسود الواقع الشعري منذ ربع قرن على الأقل. فالجميع يتحدثون عن تلك «القصيدة» بصورة انطباعية، جزئية، عشوائية. ولا تأسيس.

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أوصيت بترجمة كتاب سوزان برنار الشهير، عن قصيدة النثر، الذي لم يسبق ترجمته من قبل. وقد تمت ترجمته بالفعل، وقمت بالمراجعة والتقديم، على أمل أن يرفع الاطلاع على الكتاب التأسيسي الفريد مستوى الكتابة النقدية عن قصيدة النثر. لكن الكتابات اللاحقة للأسف الشديد لم تستفد من رصانة وجدية وشمولية الكتاب الفرنسي، وبدت وما زالت تبدو في غالبيتها العظمى ككتابات هواة عشوائية ومزاجية. وما يزال النقاد يتعاملون نقديًّا مع «قصيدة النثر» شأنها شأن أية قصيدة «تفعيلية»، بلا تمييز ولا خصوصية.

■ «أرعى الشياه على المياه» آخر دواوينك الشعرية.. هل يمكن اعتباره امتدادًا لمشوارك الشعري، أم أن له سياقًا متفردًا يُقرأ من خلاله؟

«أرعى الشياه على المياه» ليس «ديوانًا» يتألف من قصائد منفردة، حسب المعتاد؛ بل هو «عمل شعري» كامل، يبدأ، ويتواصل- حتى نهايته- في سياق شعري واحد، متصل. وهو امتداد وتطوير- في آن- لمشواري الشعري، وخاصةً لـ«حجر يطفو على الماء» (2008)، من زاوية توسيع أفق الكتابة، بتحويل الصفحة إلى ساحة متاحة لتعدد الأصوات والأشكال والصياغات، ومن بينها الرسوم المتنوعة المبثوثة في كل صفحة. فالكتابة متعددة السياقات في الصفحة الواحدة، ومتقاطعة، تعكس تعدد الأصوات، شأنها شأن الرسوم، بلا مخطط مسبق، ولا نمط جاهز. ولا مثال سابق؛ ولا هيمنة لعنصر على آخر، أو انفراد عنصر- أو صوتٍ شعريًّ ما- بفضاء النص أو الصفحة.

غابة عارمة من الأصوات والحيوات الصاخبة، المتقاطعة، المتداخلة، المتصارعة، مخترقة فضاء الصفحة إلى الكون، الجغرافيا والتاريخ، الماضي والراهن والقادم، الأدبي والتشكيلي؛ بلا انتهاء.

■ رفعت سلام الموغل في التجريب.. هل ثمة مخاتلة في عنوان ديوانك الأخير الذي يحمل جملة إيقاعية، في حين أنك من رواد قصيدة النثر.. أم إنه الحنين إلى الموسيقى الشعرية؟

يبدو أن هناك التباسًا بخصوص كتابتي الشعرية، من الزاوية الإيقاعية، مصدره الافتقار إلى الدراسات التخصصية، ودقة القراءة، ودفاعي «المبدئي» عن «قصيدة النثر». فجميع الأعمال الشعرية لي تنطوي على ما هو إيقاعي، تفعيلي، لا كنمط إيقاعي رئيسي، بل كنمط «مشارك». فمبكرًا، لم أجد نفسي ملزمًا بتلك الثنائية القاطعة التي طُرحت في التسعينيات مع الشعراء «الجدد»: قصيدة تفعيلية/ قصيدة نثر؛ باعتبارها- في تقديري- ثنائية زائفة، لا يحتملها الشعر والإبداع عمومًا. وقد صدقها شعراء ينتمون إلى السبعينيات، وما بعدهم، من كتاب «قصيدة التفعيلة»، خضوعًا للموجة الكاسحة.

بالنسبة لي، يمثل الإيقاع التفعيلي ثروة «بنائية» من الحماقة إهدارها مجانًا، تمنح النص الشعري تعددية في الحالة الإيقاعية، بلا أحادية. ففي «إشراقات رفعت سلام».. وجدتني- خلال الكتابة- أمزج التفعيلي بالنثري، من الناحية الإيقاعية، وأكسر- بصورة عفوية- الانسياب الإيقاعي التفعيلي، المدغدغ للحواس، والمخدر للروح، بعبارات نثرية الإيقاع؛ فهدهدة القارئ ليست من مهام الشعر! وهو نهج تواصل في أعمالي التالية كلها. فالإيقاع «التفعيلي»- بالنسبة لي- ضروري، أستخدمه (لا يستخدمني) في مواضع معينة من بناء العمل الشعري، بما يخدم البنية الكلية للعمل.

■ كنت ومازلت من اهم الداعمين لقصيدة النثر كتابة وتنظيرا وتأريخا.. فكيف تراها الآن؟

أظن أن ما يُكتب الآن باسم «قصيدة النثر» هو حالة شعرية «انتقالية»، وعابرة. فالقصيدة التي كانت- وهي دائمًا- وعدًا بأفق مفتوح على حرية مطلقة، تحولت- في غالبية النصوص المنتسبة إليها- إلى قفص حديدي محكم القضبان، تتخبط فيه عصافير الروح. كانت- في تأسيسها الأوَّلي- تجليًا للانفلات من «النمط»، فتحولت إلى «نمط» جاهز، يُعاد إنتاجه كل يوم، بلا رؤية مغايرة، ولا اكتشاف خاص، ولا مغامرة تتخطى المعروف، المملوك، الجاهز؛ «نمط» أصبح روتين الكتابة.

ولهذا، لا أتوقع أن يستمر هذا «النمط» طويلاً؛ وسيأتي قريبًا القادرون على اختراقه إلى ما هو أبعد؛ إلى ما يعيد للكتابة الشعرية ماهيتها المفقودة كإبداع غير مسبوق.

■ قصيدة النثر متهمة بمخاصمة الجمهور، والابتعاد بالشعر عن الواقع وقضايا الشارع؟ وكيف يعود الشعر فنًّا جماهيريًّا، كما كان؟ لماذا لم تحقق قصيدتكم وقصيدة النثر تواصلا مع القارئ العادي، ولم تجد أصداء إلا في وسط النخبة وجماعة الشعراء والنقاد؟ هل غابت هموم الشعر عن الشارع؟

بل لم يعد الشارع والقارئ «العادي» معنيًّا بالشعر ولا بالثقافة، بشكل عام. ولم يكن يعرف نجيب محفوظ- بجلال قدره- إلا على نحو محدود جدًّا، من الأفلام المأخوذة عن رواياته، لا من رواياته ذاتها. فهذا «الجمهور» ليس معيارًا، فيما يتعلق بالإبداع. فهو الجمهور الذي كان يُقبل على أفلام حسن الإمام ونيازي مصطفى، لا أفلام يوسف شاهين أو صلاح أبوسيف (تم رفع فيلم «بين السماء والأرض» لصلاح أبوسيف من دور السينما بعد أسبوع واحد، عند صدوره، بسبب تدني الإيرادات). وكان يقبل على دواوين نزار قباني لا دواوين صلاح عبدالصبور.. ويقبل الآن على أفلام محمد رمضان.. لا سواه..

هو جمهور لا يتأسس في مراحل تعليمه المختلفة على أعمال طه حسين ونجيب محفوظ وصلاح عبدالصبور، بل على أعمال مجهولة لأدباء مجهولين، نكرات، بلا قيمة أدبية أو ثقافية. ثم تتلقفه أجهزة الإعلام لترسخ لديه قيم التفاهة والجهل. وسيزداد انحدار وعيه بوتيرة أعلى، مع تخلي الدولة عن مسئولياتها الثقافية، ومحاصرتها- في نفس الوقت- لأي جهد أهلي بديل.

■ كيف بدأت قصتك مع الترجمة.. وما هو معيار اختيارك للأعمال التي تترجمها؟ قلت إن دخولك عالم الترجمة بقوة وكثافة مرتبط بواقعة ترجمتك لبوشكين ومن بعدها بدأ شغف الترجمة؟

نعم لم أكن أقصد وأنا أترجم أشعار بوشكين، في السبعينيات- أن أنشرها في كتاب؛ بل كنت أترجمها لنفسي، لأتعمق أكثر في تجربة مؤسس الحداثة الشعرية الروسية؛ وخاصةً أن المكتبة العربية كانت خاوية من أية ترجمة لشعره. وبعدها، انزلقت خطوةً خطوةً، دون أن أدري، إلى الترجمة؛ فقررت بيني وبين نفسي أن أقتصر على ترجمة الشعر، على وجه الحصر. وهو ما حدث، عدا حالة استثنائية واحدة كتاب «الإبداع القصصي عند يوسف إدريس».

ولأني شاعر، فقد كان طبيعيًّا أن أتجه إلى مؤسسي الحداثة الشعرية في ثقافات العالم، ابتداءً من ثقافات كنا مُعدَمين من ترجمات شعرها: بوشكين وليرمونتوف وماياكوفسكي (في الشعر الروسي)، ريتسوس وكفافيس (في الشعر اليوناني)، بودلير ورامبو (في الشعر الفرنسي)، والت ويتمان (في الشعر المكتوب بالإنجليزية).

فهو التأسيس الحداثي الشعري لآفاق متمايزة، بلا توحيد؛ تؤكد تعددية التوجهات الشعرية، في مقابل تلك «الأحادية» التي نعاني منها دائمًا في تاريخنا الشعري والثقافي. ذلك ما يجمع تلك الأصوات الشعرية الباذخة التي قمت بتقديمها، سواء في أعمال منفردة، أو في «الأعمال الشعرية الكاملة».

■ من بوشكين وماياكوفسكي وبودلير إلى رامبو وكفافيس ووالت ويتمان وريتسوس.. هذه الأسماء ماذا تمثل بالنسبة لك.. إلى أي حد أثرت الترجمة على نصك؟ وهل صار أكثر انفتاحا على المضمون الإنساني والهم الإنساني على شموله وعالميته؟

لقد أكدت لي ما كان حدسًا لي، بلا يقين، في السبعينيات: أن الأفق الشعري ليس واحدًا، فهناك آفاق بلا حدود؛ وأن شكلاً شعريًّا ما لا يمكن أن يصادر بقية الأشكال؛ وأن النص الشعري احتمالٌ، لا يقين؛ وأن «وحدة العمل الشعري» لا تلغي «تعددية» الأصوات داخل العمل؛ وأن ما تم امتلاكه شعريًّا لابد أن يستهدف المجهول شعريًّا، لاكتشاف- أو اختراع- آفاق أخرى بلا خطوط أو حدود مسبقة التجهيز.

وأكدت لي اختياراتي الشعرية في المزج بين «العام» و«الخاص»، بين «الذاتي» و«الموضوعي»، وفي النظر إلى التاريخ باعتباره وحدة متحققة في الحاضر، بلا فاصل بين ماضٍ وحاضر ومستقبل.. فقد كانت توجهاتي واضحة منذ ديواني الأول «وردة الفوضى الجميلة»، وجاءت الترجمة فأكدت هذه التوجهات وعمقتها.

■ هل من الأفضل أن يكون من يترجم الشعر شاعرًا؟ ما مدى خطورة أن يترجم الشاعر لشاعر؟

يُفترض نظريًّا أن تكون ترجمة الشاعر لشاعر أجنبي هي الأفضل؛ لكنه افتراض نظري لا يتحقق دائمًا على أرض الواقع. فأين هو الشاعر الذي يمكنه- بوعي ولا وعي- أن يتخلى عن ذاتيته أمام شاعر آخر؟ أو يمكنه الفصل بين أسلوبه في الكتابة الشعرية، ومعجمه اللفظي، وإيقاعه الخاص، ورؤيته للعالم، وأسلوب الشاعر الآخر- الذي يترجم له- ومعجمه اللفظي، وإيقاعه الخاص؟ هي مسألة «شبه» مستحيلة. «شبه».. لكنها ليست مستحيلة. بل ممكنة بكثير من الانتباه والوعي وإنكار الذات.

فعلى الشاعر المترجم أن يهرب دائمًا من نفسه، وهو يقوم بالترجمة لشاعر آخر؛ عليه أن يتذكر في كل لحظة أنه إنما يقدم نص شاعر آخر، لا نصه الشخصي؛ وأن الأمانة الأخلاقية تقتضي ألا يجور على النص الأجنبي (حيث لن يعرف القارئ العربي بذلك)، أو يؤممه لحسابه، أو يفرض وصايته عليه، على أي نحوٍ من الأنحاء.

وللأسف.. فنحن نفتقر إلى القراءات النقدية في كتب الترجمة التي تسائل المترجم وترجمته في علاقتها بالعمل الأصلي، والوعي الأدبي العام يقبل بامتنان بكل ما يُرمَى إليه من ترجمات إذا كانت سليمة اللغة، ويقبل بتدخلات المترجمين في أعمال المؤلفين الأجانب بلا أدنى امتعاض.

■ أنت ترجمت كفافيس عن لغة وسيطة وكانت توجد ترجمات من اللغة الأصلية مباشرةً، وبالأخص ترجمة الدكتور نعيم عطية. فما طبيعة الإضافة التي حققتها أنت؟ أيضًا أليست الترجمة من اللغة الأصلية مباشرةً أكثر دقة، خاصة أن المترجم لديه دراية أصيلة باللغة المترجم عنها وقاموسها وأدبياتها؟

حين أقدمت على ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة لكفافيس، لم تكن هناك ترجمة لأعماله الشعرية الكاملة (وحتى الآن، سوى ترجمتي). فمن بين خمس مجموعات شعرية له، لم يترجم الدكتور نعيم عطية سوى المجموعة الأولى. ولو لم أنجز ترجمتي، لظلت معرفتنا بشعر كفافيس ناقصة ومبتورة.

وليس شرطًا أن تكون الترجمة عن اللغة الأصلية أكثر دقة، فالترجمة الأدبية مشروطة بكثير من العوامل. ففي عام 2007، قدمت قراءتين نقديتين تفصيليتين لعملين تُرجما عن الإنجليزية، أحدهما روائي والآخر شعري. وتبين أن المترجم- المتخرج من قسم اللغة الإنجليزية بإحدى الجامعات المصرية- قد «دمَّر» العملين تدميرًا، وهما من روائع الإبداعات العالمية في القرن العشرين. فما أكثر الجرائم المرتكبة بحق روائع الإبداع العالمي المترجم عن لغته الأصلية..!

ومن ناحية أخرى، فلك أن تتصور حالة افتراضية يتم فيها حذف الأعمال الإبداعية الروسية المترجمة عن لغة وسيطة، على سبيل المثال، من وعي الأدباء والمثقفين المصريين والعرب؛ أي حذف دستويفسكي، وتشيكوف، وجوجول، وبوشكين، وتولستوي، وماياكوفسكي وليرمونتوف، إلخ؛ فما الذي يبقى في الوعي الأدبي؟ وما الذي يجعل القارئ يتلهف على ترجمة سامي الدروبي لأعمال دستويفسكي حتى الآن، كلما صدرت طبعة جديدة منها، رغم أنها قد تمت عن لغة وسيطة؟ المسألة ليست معادلة رياضية بسيطة، إلى هذا الحد.

وأشير إلى أن هذه القضية ليست مثارة في الثقافات الأوربية. فأهم ترجمة يونانية لمختارات الشعر العربي الحديث أنجزها كوستيس موسكوف عن الإنجليزية والفرنسية (لا العربية). وترجمات أشعاري اليونانية والكرواتية والبلغارية والرومانية.. أنجزت عن الترجمات الإنجليزية والفرنسية..

ورغم كل ذلك، فترجماتي لأعمال بوشكين وليرمونتوف وماياكوفسكي الشعرية (عن الإنجليزية والفرنسية) ما تزال هي الوحيدة في اللغة العربية. وطُبعت كل منها أكثر من طبعة، ونفدت.. مثلما نفدت- خلال شهر واحد- طبعة الأعمال الشعرية الكاملة لكفافيس. فهي قضية أقرب إلى الترف الثقافي المفتعل.

■ هل يتعين على المترجم أحيانا أن يخون النص الأصلي ليقدم جماليات النص باللغة التي يترجم إليها، أم إنه يجب أن يكون أمينا في الترجمة، حتى لو اضطر إلى الترجمة الحرفية؟

في مجال الترجمة، لا مجال للـ«خيانة» و«الأمانة»، كمصطلحات أخلاقية؛ هناك «الدقة» و«عدم الدقة». والأهم- في ترجمة الأعمال الإبداعية- هو تحقيق السمات الأسلوبية للمؤلف، أي ما يحمل خصوصية إبداع هذا المبدع، ويمايزه عن غيره. فـ«الأسلوب هو الإنسان»، كما قال «دو بوفون» المفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر. ورأيي أن مَن يعجز عن تقديم الترجمة على نحو لائق بمؤلفها، فعليه أن يتخلى عنها إلى مَن يقدر على ذلك.

■ هل ترى أن ثمة اهتمامًا رسميًّا من مؤسسات الدولة بالنشر عمومًا، ونشر الشعر خصوصًا؟

للأسف، لم يعد لدينا- في مجال النشر، وخاصةً نشر الشعر- سوى «هيئة الكتاب»، بعد تخريب قطاع «النشر»- عن عمد- في هيئة قصور الثقافة، في العامين الأخيرين.
وأيًّا ما كانت قدرات «هيئة الكتاب»، فلا يمكنها وحدها استيعاب النتاج الثقافي لشعب يصل تعداده إلى مئة مليون. وهو ما يحول الكتَّاب إلى فريسة لدور النشر الخاصة.

■ ما رأيك في حركة الترجمة في مصر مؤخرا مع وجود مؤسسات كثيرة تقوم بهذا الدور، سواء رسمية، أو من خلال دور النشر الخاصة؟

هي حركة عشوائية، مرهونة بالاختيار الفردي، بلا منهجية، حتى في «المركز القومي للترجمة»، الذي يعتمد مبدأ «الكم» على حساب «الكيف»، ذلك المبدأ الذي أرساه جابر عصفور في تأسيسه للمركز، فلم يستطع رؤساؤه اللاحقون الخروج عليه. أداء ممعن في البيروقراطية، كأن الكتب تصدر بالقصور الذاتي، بلا هدف سوى مجرد الصدور. وما أكثر الكتب التي تعتبر إهدارًا للمال العام، سواء في الاختيار، أو الأخطاء البشعة في الترجمة والتحرير. أما دور النشر الخاصة، فلا تقدم إلا على ما تتوقع رواجه في التوزيع. فمبدأ «القيمة» غائب، وليس شاغلاً لأحد.

■ بعد ثورتين كبيرتين مرتا على مصر.. ما هو موقع المثقف من السلطة؟

لقد استعاد النظام حظيرته الثقافية، وأعاد ترميمها، واستعاد غالبية المثقفين مواقعهم فيها، كأن شيئًا لم يحدث. وهم نفس من كانوا يتمسحون بثورة يناير في ميدان التحرير في تلك الأيام المجيدة. وما يزال الآحاد يعتصمون بالهامش- كما كانوا قبل الثورة- في رفض للاندماج مع القطيع اللاهث خلف الفتات المسموم، في شكل جائزة، أو منحة، أو دعوة هنا أو هناك، أو عضوية لجنة بيروقراطية.. ورفض لتأميمهم من قبل هذا النظام.

■ ولماذا لم نجد نصًّا قويًّا عبَّر عن ثورة يناير، بالإيجاب أو السلب؟

بعد انتفاء أشعار المناسبات من الوعي الأدبي، تلك القصائد الحماسية السطحية الموجهة إلى الجانب العاطفي من المتلقي، ندرك أن الإبداع عمومًا بطيء في استجابته للأحداث الكبرى. فالمبدع بحاجة إلى التأمل واستكناه الحدث وتفاصيله، واكتشاف ما وراء السطح و«الصخب والعنف» ولا مدًى محددًا سلفًا لهذا التأمل ورغم ذلك، فسيبقى ديوان «يارَا» لمحمد رياض شاهدًا على إمكانية حضور الشعر على نحو يليق بالحدث الأكبر في التاريخ المصري الحديث.

Leave a Reply