ما هو المستحيل؟ هل يُمكن أن تقف إرادة البشر عند حدود ما؟ هل هنالك رقم قياسي لا يُمكن كسره؟ حلم لا نستطيع تحقيقه؟ عقبة في الطريق لا يُمكن تجاوزها؟ إذا كانت تلك هي المستحيلات، فقد استطاع «مينا ميشيل» تحطيمها.
فقد تمكن «مينا ميشيل» من الحصول على درجة علمية رفيعة من ألمانيا، كما نجح أيضًا في دراسة الهندسة المعمارية، رغم كونه «كفيفًا» لا يرى سوى خيالات مزعجة من الأضواء الساطعة.
البدايات:
يحكي «مينا» لـ «المصري اليوم» قصته، ويقول «أنا من مواليد المنصورة، عام 1986، من أسرة متوسطة الحال. ولي أخ يصغرني بعامين. والدي مهندس معماري ووالدتي ربة منزل» كان شغفه منذ الصغر بمهنة والده، التي زرعت بداخله الحلم: «كنت أريد أن أصبح معماريًا يومًا ما لأرسم كما يرسم وأشيّد المباني كما يشيّد».
بينما كان الأخ الأصغر لميشيل طفلًا لا يتجاوز العامين، لاحظ والده أنه يعاني من مشكلة في النظر، مما جعلهما يلجآن لطبيب عيون لتشخيص الحالة.
أكد الطبيب أنه مصاب بمرض Retinitis Pigmentosa، وهو مرض يؤدي إلى ضمور خلايا الشبكية بالتدريج مع مرور الأيام. لم تستطع والدة ميشيل تقبُّـل الخبر بسهولة وأسرعت لعرض الأخ على أكبر أطباء العيون في القاهرة، الذين أكدوا جميعًا أنه لا دليل على صحة تشخيص طبيب المنصورة وأن الأمر لا يتعدى مشكلة قصر النظر.
مرت ست سنوات على تلك الحادثة حتى أصبح «ميشيل» في العاشرة من عمره، ويكمل مينا: «وقتها بدأت أصف لوالديّ بالتحديد ما أواجهه من مشاكل في النظر: ضعف الرؤية في الليل وفي الضوء المبهر، محيط الرؤية ضيّق بشكل ملحوظ، ومشكلة الانتقال من مكان مشمس إلى مكان مظلم أو العكس».
ذهبت الأسرة مرة أخرى إلى طبيب المنصورة الذي أكد أن «ميشيل» وأخاه يعانيان من مرض Retinitis Pigmentosa وأنه لم يقابل هذه الحالة إلا من ستة أعوام لطفل عمره عامان: «وقتها أخبرناه أن هذا الطفل هو أخي».
يقول ميشيل لـ «المصري اليوم»: «أذكر جيدًا أن والديّ لم يضيِّقا علينا في الحياة عمومًا من منطلق الخوف أو القلق الزائد بأي شكل يُذكر»، فمثلاً، ترك الوالدان الطفلين يركبان الدراجات بالرغم من كثرة الحوادث البسيطة واستجابا لرغبتهما في ممارسة رياضة كرة المضرب وكرة الطاولة بجانب السباحة، ويتابع: «لكني أذكر أيضًا جيدًا أنهما كانا دائمي الصلاة وطلب الدعوات كي يمد الله يده وينعم علينا بالشفاء، فكان ردي عليهما وقتها أن ما أطلبه من الله هو أن يعطيني القوة والقدرة كي أعيش حياتي كما هي وأحقق كل أحلامي بالإمكانيات التي قدرها لي سبحانه». اعتبر ميشيل هذه الظروف الخاصة بمثابة التذكرة التي سيصل بها إلى رحمة الله في يوم القيامة.
من المدرسة إلى الجامعة:
يقول ميشيل: «كنت أنا وأخي متفوقين في الدراسة وحصل كلانا على 100% في الثانوية العامة. كنا لا نجد مشكلة في القراءة حيث إن النظر في مركز مجال الرؤية وتحت الإضاءة المتوسطة كان جيدًا إلى حد كبير».
حصول «ميشيل» على مجموع كبير في الثانوية العامة أتاح له أن يختار الكلية التي يرغب الالتحاق بها بلا أيّ مشكلة: «اخترت بلا تفكير كلية الهندسة وعيني على تحقيق حلمي أن أصير معمارياً».
في ذلك التوقيت كانت الجامعة الألمانية في القاهرة فتحت أبوابها لأول مرة لاستقبال طلاب دفعة «ميشيل» وكانت تقدم منحة دراسية كاملة لمن حصل على مثل مجموعه في الثانوية العامة: «ولكني لما علمت أن قسم العمارة لم يكن بعد قد تأسس هناك، صممت أن ألتحق بجامعة المنصورة. وأيضًا كان الوضع كذلك بالنسبة للجامعة الأمريكية. استمتعت كثيرًا جدًا بالعام الدراسي الأول لي في كلية الهندسة وهو عام إعدادي قبل التخصص في أحد أقسام العمارة».
حصل في سنته الأولى على تقدير امتياز في كل المواد ما عدا مادة الرسم بتقدير جيد والهندسة الوصفية بتقدير جيد جدًا: «كنت أحتاج وقتاً أطول من الطبيعي لإنجاز اللوحات المطلوبة، مما أثر عليّ في امتحان آخر العام».
وحين تم إعلان النتيجة وكان ترتيبه الثاني على الدفعة وسط ألفي طالب، توقع أساتذة الكلية أنه سيتخصص في قسم ميكانيكا أو مدني مثلاً: «ولكني صممت أن أدرس العمارة. ذكّرني والدي وقتها أن دراسة العمارة مرهقة جداً بصرياً وأيضاً فعل كذلك أستاذ مادة التصميم المعماري في أول يوم دراسة لي في القسم حينما لاحظ مشكلتي، ولكن ردي كان دائماً أنه طالما في إمكاني إنجاز رسوماتي بكل الصبر بما أتاحه الله لي من نظر، فأنا لن أترك حلمي أبدًا».
توالت أعوام الدراسة وتطور أداؤه من سنة لأخرى مع أن نظره كان يضعف مع مرور الوقت: «أهم ما تعلمته في الدراسة أن العمارة فكر وفلسفة وأن إظهار هذا الفكر وتلك الفلسفة يختلف من شخص لآخر حسب وجهة نظره وأيضًا مستوى نظره».
تدرج «ميشيل» من عام لعام ليتكيّف على تحديات ضعف الرؤية، من استخدام أقلام الرصاص الثقيلة، ثم استخدام ألوان الحبر مباشرةً، مما لا يعطي أي فرصة لتصليح أي خطأ، ثم استخدام ألوان الفلوماستر وأخيرًا استخدام ألوان السبورة: «من حسن الحظ أيضًا أن استخدام الكمبيوتر في الرسم كان مسموحًا، مما أعطاني الفرصة في إظهار أفكاري بوضوح أكبر. أيضاً، كنت أحاول دوماً أن تحمل أفكاري التصميمية فلسفة العمارة المستدامة».
العمل معيدًا ودراسة الماجستير:
مرت الأعوام وتخرج «ميشيل» رغم ضعف نظره بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف وكان الأول على دفعته، فتعيّن معيداً بالقسم: «طوّرت تقنيات الرسم الخاصة بي، كما طوّرت أيضاً أسلوب تدريسي للطلاب في المحاضرات والسكاشن العملية».
تخصص المهندس المعماري الكفيف أثناء دراسة الماجستير في استخدام أدوات المحاكاة للوصول إلى مبانٍ ذات أعلى كفاءة في استهلاك الطاقة والحفاظ على البيئة. في هذا الإطار حصل على العديد من المنح التنافسية قصيرة الأجل، كان أهمها التدرب لمدة ثلاثة أشهر في ألمانيا ولفترة مماثلة في الولايات المتحدة على استخدام تلك التكنولوجيا.
يقول ميشيل: «كنا في قسم العمارة بجامعة المنصورة نشجع بعضنا البعض كهيئة معاونة على الاحتكاك المباشر بالمجتمع العلمي الدولي وأتاح أساتذتنا لنا البيئة المناسبة لتحقيق ذلك»، مشيرًا إلى أن القسم أنشأ معمل العمران المصري المستدام: «قمنا من خلاله بتنظيم عدة رحلات لطلابنا إلى ألمانيا ولطلاب ألمان إلى جامعتنا وأيضاً قمنا بإدارة عدة مشروعات بحثية في مجال العمارة المستدامة».
تكللت تلك الفترة، التي امتدت لخمسة أعوام من 2008 إلى 2013، بحصول «مينا» على درجة الماجستير وترقيته لدرجة مدرس مساعد: «أذكر أيضاً أن من أهم ما أنجزته هو حصول الفريق الذي كنت أقوده على جائزة أفضل مشروع في مسابقة الخروج من الوادي والذي نظمتها الجامعة البريطانية في مصر. بجانب هذا، قمت بنشر عدة أوراق بحثية في أهم المؤتمرات العلمية في تخصص كفاءة استهلاك الطاقة في المباني».
الحصول على الدكتوراه:
على مدار خمس سنوات التي تلت تخرجه وعمل خلالها معيدًا، كان «مينا» يلاحظ تدهور مستوى النظر بشكل كبير بصورة أكبر مما يتوقع.
وأثبتت الدراسات العلمية أن الغالبية العظمى من مرضى Retinitis Pigmentosa يحتفظون بمستوى مقبول من النظر حتى عمر متقدم وأن نسبة صغيرة منهم فقط يتعرضون للضعف الحاد في مستوى النظر في عمر مبكر إلا أن مينا أدرك وهو في منتصف العشرينات من العمر أنه –وأخاه- من ضمن تلك النسبة الصغيرة.
يحكي مينا: «توقفت أمام تلك الحقيقة وبداخلي مزيج من مشاعر الصدمة والحيرة والخوف، فنظري الضعيف للغاية قد بدأ يحرمني من استخدام تلك البرامج التي كنت قد تعلمتها في ألمانيا والولايات المتحدة وتخصصت فيها والأهم أنه بدأ يؤثر على حريتي في التنقل من مكان لآخر»، ولكن تلك اللحظة لم تطل كثيراً، حيث إن القدر قاده لقراءة إعلان على الإنترنت عن ورشة عمل تنظمها كلية العلوم بجامعة المنصورة ضمن أكبر مشروع بحثي على مستوى العالم في مجال إدارة المياه المستدامة.
كان البصر قد كف تمامًا، وأصبح «مينا» في حكم الأعمى بالقانون، إلا أنه تقدم بورقة بحثية للمشاركة في الورشة وتم قبولها، كي تُفتح أمامه أبواب الحصول على منحة الدكتوراه من جامعة «براون شفايج» في مجال التنمية العمرانية على الأنهار الدولية، وكانت دراسة الحالة هي حوض نهر النيل.
يتابع المهندس العبقري الكفيف: «دخلت في مغامرة جديدة أصعب مما أتخيل بمراحل، المنحة المقدمة لمدة ثلاثة أعوام فقط في حين أن الدكتوراه تحتاج إلى أربعة أعوام ونصف العام على الأقل في ألمانيا كي يتم الحصول عليها» مشيرًا إلى أن التحدى مُضاف إليه تحديًا آخر ألا وهو مزج تخصص التنمية العمرانية بإدارة المياه المستدامة، وكل هذا في ظل ضعف النظر وتدهوره.
صاحبته والدته إلى ألمانيا: «والدي تحمّل الحياة بمفرده في المنصورة، بينما كان أخي بدأ عمله في الولايات المتحدة بعد تخرجه في الجامعة الألمانية بالقاهرة كمهندس علوم الكمبيوتر».
مرت السنوات الثلاث واستطاع المهندس الكفيف إنجاز كتابة الرسالة في الوقت المحدد وبالمستوى المطلوب: «لم أكن لأصل إلى هذا بالتأكيد لولا مشرفي الألماني الذي آمن بي من أول مرة التقينا في ورشة العمل بالمنصورة في مارس 2012، وأيضًا لولا مشرفتي الألمانية الثانية التي ترأست القسم بعد خروج المشرف الأول على المعاش بعد عام ونصف العام من بداية منحتي»، يقول المهندس العبقري.
المشرف الأول انتهج أسلوب التشجيع والتحفيز المتواصل، أما المشرفة الثانية استخدمت استراتيجية الضغط عالي المستوى بهدف إخراج أفضل ما في وسع مينا، وبسبب مجهودهما استطاع إنجاز الرسالة ومناقشتها والحصول على تقدير جيد جداً على الرسالة وامتياز على المناقشة.
يقول مينا إن هذه الفترة ضمت عدة مشاهد لا تُنسى أبداً، منها مقابلة مع وزراء المياه الثلاثة من مصر والسودان وإثيوبيا والتقاط الصور معهم، وحصوله على جائزة المركز الثاني في مسابقة للشعر في براون شفايج وسفره لإنجلترا لتمثيل مجموعة الشعر في المدينة، وأيضًا اختياره لتمثيل طلاب الدكتوراه في المشروع البحثي خلال المؤتمر الختامي للمرحلة الأولى والذي حضرته وزيرة البيئة الألمانية ومديرة الهيئة الألمانية للتبادل العلمي.
طيلة الوقت، يرتدي «مينا» نظارة طبية، يحتفظ بها كي يتجنب نظرات الشفقة من الآخرين ويتحاشى كلمات العطف ذات المخارج الرنانة، وأيضًا كي يواجه البشر في أعينهم: «أنظر مباشرة إلى عين من يتكلم معي، ألون الخيالات المزعجة بألوان نابضة بالحياة، أرسم في خيالي صورة عن الأشخاص، كوني لا أري نعمة. قيدني الظلام لكنه منح لخيالي العنان».