حكايات وقصص بطولة وفداء فى كل مكان فى مصر توثق لهذا الانتصار الأضخم على إسرائيل وجيشها المقهور، أبطالها جنود مجهولون، منهم من عاد بعد مهام انتحارية خلف خطوط العدو، ومنهم من وقف له قائد لواء إسرائيلى لتأدية التحية العسكرية، وآخرون حطموا الأرقام القياسية فى تدمير الدبابات بأسلحة خفيفة.
قبل معركة التحرير بيوم واحد، صدرت الأوامر بإلحاق الفصيلة، التى يخدم بها الجندى محمد المصرى، والتابعة للواء 128 مظلات، المكلف بحماية السد العالى، بالفرقة الثانية مشاة. على الفور انتقلت الفصيلة إلى الجبهة، ليقضى أبطالها يوم الخامس وليلة السادس من أكتوبر متخفين فى «جناين السويس» على بعد 2 كيلومتر من القناة، ضمن عملية إخفاء وتمويه.
لم يكن الجندى محمد المصرى، البالغ من العمر فى ذلك التوقيت 24 عاما، والذى انتقل ضمن أفراد فصيلته، يتوقع وهو يقضى ليلته فى «الجناين»، أن هذه القوارب المطاطية، التى يحملونها ستستخدم فعليًا فى اليوم التالى للعبور إلى الضفة الشرقية، يقول: «اعتقدنا أنها تعبئة عامة عادية كالتى كانت تقوم بها القوات المسلحة كل فترة فى إطار الحرب الخداعية».
بدأ السادس من أكتوبر يوما طبيعيا جدا، فعلى طول القناة تنتشر «فرقة الكسالى»، جنود يلعبون الكرة و«صلح» ويرتدون «كوتشى وبنطلونا» فقط، ويأكلون البرتقال والقصب ويرمون بها على شاطئ القناة. لم يكن فى الأمر ما يشير سواء للعدو أو لجنود الجيش المصرى، أن حربًا ستندلع بعد ساعات قليلة، فكيف لهذا الجندى «الكسول» أن يحارب، إلا أن الأمر تغير تمامًا عندما قطع هذا الهدوء أزيز 220 طائرة مصرية عبرت القناة ودكت حصون العدو فى سيناء.
وكانت هذه اللحظة هى التى انتظرها محمد المصرى، وكل مصرى. حمل الرجل قاربه المطاطى مع زملائه، بعد صدور الأوامر، وانطلقوا صوب القناة للعبور ضمن الموجات الأولى، فى تمام الساعة 2:20 وكان الجميع يحفظ المهمة المكلف بها، ومهمة «المصرى» كانت «صد هجوم العدو المفاجئ أثناء عملية العبور، وعمل كمين فى عمق قوات العدو».
ما إن وصل القارب المطاطى الذى يقل محمد المصرى وزملاءه إلى أرض الفيروز، حتى سجد قائده المقدم صلاح عبدالسلام حواش وقبل تراب سيناء، يقول «المصرى»: «رفعت رأسه وإذ به يبكى والرمل على وجهه، هذا الأمر كان له مفعول السحر علينا، عندما نرى قائدنا بهذه الوطنية، كنا على استعداد لفعل أى شىء فى المعركة». بهتاف الله أكبر، قاد حواش جنوده وتسلقوا الساتر الترابى لتنفيذ مهامهم داخل سيناء، وكانت المهمة المطلوبة التمركز فى منطقة وادى النخيل، والانطلاق منها لتنفيذ عمليات فى عمق قوات العدو والعودة.
فى 8 أكتوبر، صدرت الأوامر للواء 190 مدرع الإسرائيلى بالقيام بهجوم مضاد والاستيلاء على كوبرى الفردان، تحركت دبابات اللواء فى 2:30 ظهرًا، مثيرة سحب ضخمة من الغبار لحجب الرؤية عن القوات المصرية وإرباكها، ووفقًا لتقارير الاستطلاع الإسرائيلى، فإن الفرقة المصرية المواجهة للواء والمكونة من المشاة ستكون صيداً سهلاً.
فى هذه الأثناء وصلت الأوامر باستهداف قول دبابات (لواء 190 مدرع) فى طريقه للغرب، يقول المصرى: «على الفور درسنا الموقع على الخريطة، كانت المسافة بيننا وبينهم 8 كيلومترات». كان المطلوب الوصول إلى النقطة المحددة فى الساعة الثانية فجرًا، وبالفعل وصل المكان كل من المقدم صلاح حواش، والحكمدار محمد المصرى، والجنديان إبراهيم صبرى، وماهر صليب، وفور الوصول، بدأ كل فرد فى حفر حفرة برميلية للاختفاء فيها، وتجهيز صواريخ المالوتيكا (فهد)، الروسية الصنع، ودراسة طبيعة مسرح العمليات.
اخترق اللواء الإسرائيلى النطاق المحدد ووصلت الدبابات الأولى إلى مقربة من ضفة القناة، حتى انقلبت الدنيا رأسًا على عقب. يقول قائد اللواء: «أوقعنا المصريون فى كمين محكم.. كيف ضبطوا أعصابهم ونيرانهم طوال هذا الوقت؟».
بحسب القواعد التى تدرب عليها محمد المصرى، فإن المدى المؤثر للصاروخ هو 3 كيلومترات، إلا أن الرجل فضل الانتظار حتى اقتراب الدبابات لأقرب مسافة ممكنة. كل ما كان يفكر فيه «المصرى» فى ذلك الوقت، بحسب شهادته لـ«المصرى اليوم» هو أن يصل الصاروخ للهدف مهما كان الثمن: «ثمن الصاروخ قبل الحرب كان 500 دولار، ثم ارتفع إلى 1500 وهذه الأموال من دم الشعب المصرى، لذا كان لابد وحتمًا أن يصل الصاروخ للهدف، بعيدًا عن أى أخطاء قد تتسبب فيها ظاهرة السراب فى الصحراء مثلًا، وإلا انعدم ضميرى».
أثناء المعارك، توجه المقدم صلاح حواش لمحمد المصرى، وضع فى جيب سترته مصحفًا صغيرًا، ورددا سويًا الشهادة قبل أن يعطيه شربة ماء فى غطاء الزمزمية، ويتخذ وضع إخفاء وتمويه، يقول محمد المصرى: «طالت المدة وهو فى ذلك الوضع، زحفت حتى توجهت إليه، وجدت نصف جسده الأعلى منفصل، وقال لى كلمة واحدة ثم استشهد: مصر أمانة بين أيديكم يا مصرى».
بعد تنفيذ المهمة، وتدمير 27 دبابة إسرائيلية، محطمًا بذلك رقم قياسى عالمى، عاد محمد المصرى إلى وادى النخيل، وإذ به يتم استدعاؤه إلى قيادة الفرقة الثانية، هناك وجد نفسه أمام العميد حسن أبوسعدة، قائد الفرقة، وضابط إسرائيلى أسير، يجلس أمامه على كرسى، منحنى الرأس، توجه العميد أبوسعدة للمصرى قائلًا: «هو الذى يريدك، عندما وقع فى الأسر، طلب شرب الماء ورؤية الجندى الذى أصاب دبابته»، هنا انتصب الضابط الإسرائيلى أمام الجندى محمد المصرى، الذى حصل فيما بعد على وسام نجمة سيناء، وأدى له التحية العسكرية، لم يكن الضابط الأسير سوى العقيد عساف ياجورى، قائد اللواء 190 مدرع الإسرائيلى، والعضو بالكنيست فيما بعد.
فى موقع آخر من مواقع البطولة، لم يكن الجندى المقاتل حسن رمضان، مثله مثل غيره على طول الجبهة، يتوقع أن يكون على موعد مع النصر، فى هذا اليوم الذى بدأ عاديًا جدًا حتى قطع هدوءه أزيز 220 طائرة مصرية سادت الجو ودكت حصون العدو، ليصدر الأمر بعبور القوات إلى الضفة الشرقية للقناة.
ضمن اللواء 112 المسمى بـ«لواء النصر»، التابع للفرقة 16 مشاة، عبر حسن رمضان من منطقة سرابيوم فى الموجة الأولى للعبور. أثناء العبور لمحه قائده محمد عاطف الشربينى مبتسمًا، فبادله الابتسامة قائلًا: «عايزك تضحك طول المعركة». وصل القارب المطاطى الضفة الشرقية، وتسابق الجنود فى تسلق الساتر الترابى، كل منهم يحفظ مهمته عن ظهر قلب، وكانت مهمة حسن رمضان ضمن كتيبته، هى احتلال تبة الطالية، على بعد 7 كيلومتر فى عمق سيناء.
وترتفع تبة الطالية حوالى 49 مترًا عن سطح البحر، ما جعلها نقطة استراتيجية مهمة للقيادة العدو والمراقبة والسيطرة على الطريق الأوسط، كما تشرف من الشرق على الطرق حتى جبل حبيطة، ومن الجنوب حتى تل سلام والدفرسوار.
وصلت الكتيبة 34 إلى الموقع المحدد، يقول حسن رمضان: «التبة كانت عالية ودار عليها معارك رهيبة، عليها شهداء مصريون وقتلى إسرائيليين بأعداد كبيرة. لم يكن معنا سلاح للتعامل مع الدبابة، كنا مشاة، وكنا مازلنا فى الموجة الأولى للعبور، لم تكن هناك دبابات ولا مدفعية عبرت بعد، كان معنا سلاح RBG وهو سلاح لا يستطيع الجندى مواجهة دبابة على تبة به، لأنها أعلى منه وقادرة على كشف المكان، وكل دبابة عليها جندى بمدفع، وكانت معركة رهيبة واجهنا فيها الدبابات كمشاة، كنا نواجهها ونعتليها ونرمى قنبلة بداخلها».
من نقطة إلى أخرى كان حسن رمضان يتنقل على تبة الطالية مع جنود وضباط القوات المسلحة، فى معركة من أهم المعارك التى خاضها الجيش المصرى على سيناء، أسفرت عن تكبيد العدو خسائر قدرت بـ75 دبابة، بينها دبابتان سليمتان، و4 عربات مضادة للدبابات، و4 مركبات مجنزرة، بالإضافة إلى عدد كبير من القتلى والجرحى والأسرى.
وبعد 44 عامًا من المعركة، جلس الرجل يقص شهادته لـ«المصرى اليوم» وسط أفرول لأحد الضباط الإسرائيليين الذين كانوا على تبة الطالية، وزعنفة دانة إسرائيلية، وزجاجة بها بعض من رمال سيناء بعد سقوط صاروخ إسرائيلى فيها، وصور له على التبة المحررة بعد رفع العلم المصرى، والعديد من صور الشهداء، منها الذى ما زال يحمل آثار دماء الشهداء عليه، يمسك الرجل بصور زملائه الشهداء وينقطع حديثه ويبكى متذكرًا ظروف استشهادهم.
ويحكى متابعاً: «فى مساء السادس من أكتوبر، وعلى تبة الطالية المحررة، كان حسن رمضان يشارك فى دفن جثامين الأبطال، أحدهم كان الشهيد على محمد محمود من مركز دشنا، وفيما كان حسن رمضان يأخذ متعلقاته قبل الدفن، وجد صورة له كان الشهيد يحتفظ بها فى جيبه، وقد طالتها آثار الدماء».
لم يكن الرجل يتخيل فى ذلك الوقت، أن من ضمن الذين سيشارك فى دفنهم الشهيد عاطف محمد الشربينى، العريس الذى حضر حسن رمضان فرحه قبل 15 يوما فقط من المعركة، والذى أوصاه صباح نفس اليوم، بالابتسام طوال المعركة، يقول: «كنت أحبه جدًا، قبلت رأسه التى طالتها دانة إسرائيلية، واحتضنته وغرقت ملابسى العسكرية بدمه».
بطولات جنود مصر وهم يعبرون القناة، توازيها بطولات أخرى مجهولة، لأبطال الصاعقة خلف خطوط العدو. من بين هؤلاء أحمد وهدان، الجندى المجند بالمجموعة 128، التابعة للكتيبة 153 صاعقة، ففى السابع من أكتوبر، انطلقت المجموعة فى مهمة خلف خطوط العدو فى منطقة راس ملعب وأبوزنيمة وأبورديس التى كان بها قاعدة عسكرية إسرائيلية ومطار حربى، وكانت بحق مهمة انتحارية، مهمة ذهاب بلا عودة.
قبل هبوط الطائرة الحربية المصرية، كسرت عجلتها، ما اضطرهم للقفز من على ارتفاع 20 مترًا، قبل انفجارها الذى أدى إلى انكشاف أمر المجموعة للعدو، ما صعب من المهمة المكلفة بها.
يسرد أحمد وهدان شهادته لـ«المصرى اليوم»: «كنا نقوم بعمليات خلف خطوط العدو، ونستهدف القاعدة العسكرية الإسرائيلية بصواريخ جراد، وكنت أصعد الجبل يوميًا لإبلاغ القيادة بما تم تنفيذه من عمليات، وتلقى التعليمات الجديدة، كنا نقوم بعملياتنا ليلًا، ثم نغير مكان التمركز، ليحفر كل شخص حفرة برميلية فى الرمال، يتخفى فيها حتى اليوم التالى».
«لم تكن المهمة سهلة، حيث كان الطيران الإسرائيلى يغير على أماكن تواجدنا، ونفذ الطعام، لدرجة أننا كنا نبحث عن ثعبان فى صحراء سيناء لنتقاسمه، أو نضع زلطة فى فمنا لمجرد جريان الريق، فى إحدى المرات حاول العدو عمل إبرار جوى فى موقعنا، فقام أحد الجنود القناصة باصطياد الإسرائيليين الذين يقفزون بالمظلات من الطائرة، وقتل منهم 8».
فى ليلة السادس عشر من أكتوبر، قاد الجنرال أرئيل شارون فرقته محدثا ثغرة فى القوات المصرية عرفت باسم «الدفرسوار»، إلا أن مهمة شارون لم تكن نزهة، حيث فقد المئات من جنوده قتلى برصاص الجنود المصريين. لم تكن الفرقة الرابعة مدرعات التابعة للواء الثانى قد صدر لها الأمر بعد بالعبور، وفيما كانوا ينتظر الجنود الأمر على أحر من الجمر، صدرت الأوامر فى 18 أكتوبر بالتوجه إلى الدفرسوار للتصدى لقوات شارون.
تحركت الفرقة، ومن بين جنودها البسيونى بندق، حتى وصلت الموقع المحدد، مع أول ضوء من صباح اليوم التالى، 19 أكتوبر، عدلت القوات أماكنها، يقول البسيونى بندق فى شهادته لـ«المصرى اليوم»: «قمت بتجهيز دبابتى تجهيزًا هندسيًا، وقمت بإخفائها بحيث لا يظهر من سطح الأرض إلا البرج فقط، وفى الحادية عشر صباحًا فوجئنا بقوات العدو أمامنا بكميات كبيرة من المدرعات وغيرها، لم يكن شارون يتوقع أن يواجهه أحد وفوجئ بوجودنا».
اشتبكت الكتيبة مع العدو فى معركة عنيفة، استخدم فيها البسيونى بندق «الشدة» كاملة فى ساعتين (43 دانة ثقيلة من المفترض أن تطلق على مدار 72 ساعة قتال)، يقول: «ما قمنا به كان أمرا شديد الخطورة، لأن الدبابة بها مؤشر أحمر، عندما يضىء يجب أن يتوقف الضرب، إلا أننا لم نمتثل لذلك، لأن المعركة كانت محتدمة والمسافة بيننا وبين قوات العدو لم تكن تتجاوز 1.5 كيلو، وهى مسافة قريبة جدًا فى معارك المدرعات».
خلال المعركة، سقط طيار إسرائيلى، فيما كانت تستعد دبابة إسرائيلية لإجلائه، وجهت قذيفة نحوهم، لتدمر الدبابة بطاقمها بالإضافة إلى الطيار.
بعد انتهاء بندق من ضرب «الشدة» كاملة، وتدميره 19 دبابة إسرائيلية، انتبه لإصابة دبابته، وعندما خرج منها فوجئ بكم القصف الذى تعرض له موقعه، يقول: «بعد استمرار المعركة لمدة ساعتين، جاءت الأوامر بتدخل الطيران، والحقيقة أن الطيارين المصريين تعاملوا باحترافية، فرغم قرب المسافة مع قوات العدو، إلا أنهم لم يصيبوا دبابة مصرية واحدة، حيث كنا نضع علامات بألوان معينة على برج الدبابة ليتعرف عليها الطيران المصرى».
والحقيقة أنه فى بيوت بسيطة بكل مكان فى مصر، يعيش بيننا أبطال حطموا، وعمرهم بالكاد تجاوز العشرين عامًا وقتها، أسطورة «الجيش الذى لا يقهر»، لكل منهم قصة بطولة خاضها، وعشرات من قصص البطولة التى كان شاهدا عليها.
يعلق البسيونى بندق شهادة نوط الجمهورية من الدرجة الأولى فى منزله الريفى البسيط بالغربية، وكما يعتز أحمد وهدان بصورته فى زى الصاعقة، يعتز حسن رمضان بصور زملائه الشهداء وأفرول الضابط الإسرائيلى الذى حصل عليه بعد معركة الطالية، فيما يؤكد محمد المصرى، الحاصل على نجمة سيناء، أعلى وسام عسكرى مصرى، طوال الوقت، أن بطولات أكتوبر، تستحق أن تروى طوال الوقت، لتتعرف عليها الأجيال الجديدة.